على هامش المذكرات الشخصية (2)

السنة الأولى بالعراق

** بدأت هذه المرحلة منذ توديعي لأسرتي في الساعة الواحدة صباحا يوم 23/8/1981 وركوبي للأوتوبيس متوجها أنا وأبي وخالي الى مطار القاهرة ، الذي منه ركبت الطائرة المتجهة الى عمان في الساعة الحادية عشرة وفي هذه اليوم مررت بخبرة جديدة وهي ركوب الطائرة .... لم أشغل بالي بما سوف يحدث بعد ركوب الطائرة ووصولي الأردن ثم العراق ، ربما كان ذلك محاولة لضبط النفس ومقاومة أي قلق أو خوف أو تردد ، كنت أريد أن يتم كل شيء ببساطة وسهولة لذلك حرصت على عدم اتخاذ رفيق لي في هذه الرحلة لأنني كنت أثق في قدرتي على ضبط نفسي لأنني أفهمها جيدا الى حد كبير وأن الرفيق قد يتسبب في تشتيت تفكيري وانحرافي عن البرنامج الذي أضعه لنفسي .

** عزمت ألا أفكر كثيرا في الغد حتى لا أرهق نفسي وأعصابي المتوترة وعزمت أن أقتل جميع الوساوس واثقا في خبرتي في هذا الشأن عندما كنت أهرب من همومي بممارسة الرسم والموسيقى أو النوم أو الاندماج في مشاهدة أو قراءة ما هو غريب ومثير ، بل أنني كثيرا ما كنت أجعل من الأشياء العادية غريبة ومثيرة عندما أنظر اليها بتأمل وبحث .

** كانت هذه هي وسيلتي في مصر قبل السفر أما الوسيلة التي وضعتها في خطتي لما بعد السفر أن أكثر من قراءاتي  وتنزهاتي وتأملاتي المتعمقة في المجتمع الجديد والحياة الجديدة والبعد بقدر الامكان  عن التفكير في الأحوال المالية والارقام

** كنت أعرف من خلال أحاديث المسافرين العائدين أنهم يهتمون أكثر الشيء بما يحصلون عليه من عائد مادي وقليلا ما كنت أسمع أحاديث تحتوي على عمق الافكار .

(( الجلوس بجوار نافذة الطائرة ))

** عندما صعدت الى الطائرة أخذت مكاني بجوار النافذة  وتمتعت بمناظر لأول مرة أشاهدها كنت أراقب اتجاهات الطائرة من خلال اتجاه الشمس من الشباك واراقب ارتفاعها من خلال أحجام المباني ووضوح سطح الأرض

** لاحظت الجبال وقد رسمت عليها خطوط كروافد الأنهار علمت بعد ذلك انها مسارات صنعتها السيول.

** لاحظت أن المناطق الساحلية بها سحب تحجب ماتحتها ، وأن السحب تبدو من بعد وكأنها بقع بيضاء  ملتصقة بالارض

** لاحظت أن مياه البحار تختلف في ألوانها تبعا لصخورها أو رمالها أولعمقها أو ضحالتها

** وكانت السفن تبدو كنقطة أو خط صغير تتبعه خطوط الأمواج التي صنعتها الرفاصات .

** ألاحظ المدن الصغيرة أو القرى كتجمع من النقاط تتصل بها خطوط وجأنها أرجل العنكبوت ، استنتجت أن هذه الخطوط هي الطرق المؤدية الى المدينة .

** اسرح بأفكاري واسنتنتج ان الانسان شيء صغير جدا في هذا الكون وكأنه كائنات ميكروسكوبية تعلق بقطرة ماء أو كسرة خبز، وأن النشاطات والصراعات والاستعراضات ماهي إلا تفاهات في هذا الكون الكبير .

** لاحظت من خلال الطائرة اللمسات الانسانية التي يتركها الانسان في الطبيعة كمثل اللمسات الانسانية التي أجدها في لوحة فنية .

** لاحظت أيضا ظل الطائرة وهو يبدو كمثل علامة زائد + واستنتجت أن طائرتنا يشاهدها الناس من تحتنا بهذا الحجم الصغير .

** لاحظت في المناطق الجبلية أن بعض المناطق في أحد جوانب الجبل تبدو وكأنها أكثر اظلاما من االجانب الآخر

** لاحظت حركات الروافع الملحقة بالجناح واختلاف حركاتها تبعا للارتفاع أو الهبوط أو تغيير الاتجاه.

** لاحظت ان الطائرة عندما تميل أثناء دورانها يبدو سطح الأرض والجبال وكأنها حائطا في مواجهة شباك الطائرة

** في أول سفرية اعتقدت أننا أخذنا طريق البحر المتوسط ولكن في السفريات الأخرى التالية علمت أنها تتخذ مسارها فوق خليج السويس ثم تعكس اتجاهها لتسلك طريقها فوق خليج العقبة .

** كانت الطائرة في الرحلة الأولى صغيرة نسبيا وبأجنحتها توجد مراوح ، وتعرضت لمطبات هوائية شديدة لم تكن مرعبة لثقتي في أنها عادية ، وعلمت بعد ذلك أن مسارات الطائرات غالبا ما تكون فوق البحار لأن سطح البحر مستوي ومتجانس ( يحتوي على الماء فقط ) وأن هذا الاستواء والتجانس يجعل فروقات الضغط قليلة مما يقلل من المطبات الهوائية .

** عندما وصلت الطائرة الاردن شاهدت مدينة عمان ومكانها وسط الجبال وعندما نزلنا بالطائرة في مطار عمان كان المطار هادئا جدا بالنسبة لمطار القاهرة ،  وكأنه لا يوجد به عاملين ، وكأننا في محطة أوتوبيس ، والجو لم يكن حار بل كانت نسمة لطيفة أشاعت جو من الاطمئنان  .

** بعد الانتهاء من اجراءات الدخول الى الاردن وتغيير العملة أخذت حقيبتي المتوسطة الحجم التي بها ملابسي والحقيبة الأخرى السمسونايت  التي أحمل بها الأوراق الهامة وبعض الكتب  وسرت بمفردي في شوارع الأردن المحيطة بالمطار أفكر في الخطوة القادمة بكل هدوء ، ووجدت السائقين الاردنيين يصيحون على منطقة الزرقاء التي منها يتم حجز الباصات المتجة الى العراق ،

** كان سعر النفر100 فلس وأوصلني السائق الى مكتب الحجز الى بغداد ودفعت 12 دينار وسلمت جواز السفر الى هذا المكتب لكي يقوم السائق بعمل اجراءات مغادرة الأردن  والوصول الى العراق .

** انتظرنا وعدد كبير من المصريين ولم تصل الينا السيارة إلا بعد ساعتين تقريبا وعندما وصلت وجدتها قديمة بالية وبها كراسي خشبية مرصوصة عشوائيا .

** حاولت استرجاع نقودي وجواز السفر  لكن صاحب المكتب رفض ووعدنا بأن السيارة جيدة وتتحمل المسافات الطويلة .

(( تأخر السيارة في القيام من الأردن ))

** انتظرنا فترة طويلة أخرى ولم تقم السيارة بعد ، بسبب تأخر أحد الاشخاص الذي يبحث عن حقيبته المفقودة  ولكنني علمت أن سبب الانتظار الحقيقي هو الرغبة في الحصول على ركاب أكثر.

** الى أن قامت االسيارة متوجهة الى العراق وفي الطريق توقفت أكثر من مرة نتيجة أعطال بها وأحيانا كانت تتوقف أن السائق يريد ان يرتاح قليلا وينام بداخل السيارة لبعض الوقت .

(( معاناة في منطقة الرطبة لعمل الاجراءات الجمركية ))

** عندما وصلنا الى منطقة الرطبة  بالعراق لعمل الاجراءات الجمركية وعمل الهوية وجدنا سيارات كثيرة واقفة منتظرة بها أعداد كبيرة من المصريين المتوجهين الى العراق ومعظمهم من طبقات العمال نسألهم عن مدة انتظارهم في هذه المنطقة ، بعضهم يقول يومين وآخر يقول ثلاثة وآخر يقول أربعة وذلك في المنطقة الصحراوية دون أن ينتهوا من اجراءات عمل الهوية

** عندما سمعت ذلك شعرت بصدمة كبيرة هل سأظل  في السيارة لمدة ثلاثة أيام في هذه المنطقة التي ليس بها ماء ولا أماكن نظيفة  لتناول الطعام أو النوم ، وان وجد هذا المكان فلا يمكن الابتعاد كثيرا عن مكان السيارة والتي بها أمتعتنا المعرضة للسرقة

(( صدفة غريبة ))

** في غمرة هذا الوضع وهذه الصدمة التي تلقيتها قابلت الدكتور العراقي / عباس شويليه  الذي كنت أعمل لديه في أبحاثه بكلية الزراعة بالاسكندرية وقد كان عائدا من الاردن مع زوجته وأولاده ، سعدت كثيرا عندما وجدت انسانا متعلما ومثقفا أتحدث اليه بعد أن جف حلقي وتغيرت نبرات صوتي من عدم التحدث مع أي شخص منذ مغادرتي للقاهرة لأن معظم  المسافرين كانوا من غير المتعلمين أو من أصحاب العقول المتحجرة

استقبلته بكل اشتياق  وتعجبت لهذه الصدفة العجيبة النادرة بعد ثلاث سنوات تلتقي في هذا المكان البعيد ووسط هذا الزحام الرهيب نسيت كل اكتئابي وقلقي وخوفي ، وجدت نفسي أقول له من أعماقي (أنا سعيد جدا اني لقيتك في اللحظة دي ووجودك  أعطاني أمل وراحة تفسية ) رغم أنه لم يعطني أملا في نجاح هذه الرحلة وقال لي لا تتفاءل كثيرا لأن التعيين مركزي ... إلا أنني سررت منه  عندما وجدته وهو متذكرني جيدا بعد مرور أكثر من سنتين على مفارقته في مصر وهندما وجدته يسألني عن هواياتي والجيتار وسألني عن أحوالي ويسألني عن كل هواياتي ، أسأله عن فرصة عمل بالعراق يرد قائلا لا تتفاءل كثيرا لأن التعيين مركزي وانا ليس لي سلطة لكني سوف أحاول

** لم يضايقني عدم ابدائه الاستعداد الكبير لمساعدتي لأنني كنت اساسا لا أحب المجاملة  واقدر دائما الصراحة حتى ولو كانت صادمة .

** وعندما ذهبت اليه فيما بعد  في محطة البحوث في بغداد عرفني على أحد المصريين لكي يساعدني في البحث عن عمل كما سوف يأتي الذكر فيما بعد

(( ليلتين على مقعد السيارة ))

** بت ليلتين تقريبا على مقعد السيارة كانتا من أصعب الليالي لأنني كنت لا أعرف مصيرنا فربما نتيجة هذا الوقت أن تسرق نقودنا وحقائبنا أو أصاب بمرض نتيجة شرب ماء غير نظيف وعدم تناول طعام جيد  أو أصاب بتعب نفسي أو عصبي نتيجة الوضع العام الغريب  الذي لا يتلاءم مع طبيعتي أنا الذي لم استطع يوما النوم بداخل السيارة أو القطار  ولا أستطيع التأقلم بسهولة على فراش جديد للنوم  ولا أستطيع التركيز في التفطير في المواقف الصعبة .

** في الظروف العادية كنت أهرب بممارسة الهوايات ، لكن ماذا افعل الآن ، كل شيء اجباري ولا توجد مهارب ، وصل الأمر الى أنني فكرت في العودة ثانية الى مصر  لكن الجوازات سلمتها في المكتب لاستخراج هوية ( بطاقة شخصية ) ، حتى ولو أنني استطعت ان أعود كنت سأتردد كثيرا لأسباب كثيرة

بعيدا عن ازدحام الناس وأقاويلهم المثبطة لكل عزم استطعت أن أهدئ نفسي بعض الوقت  وبحثت عن مكان هادئ  نظيف أستطيع لأن أكتب فيه رسالة الى الأسرة لكي أطمئنهم

(( الارتياح في الجامع ))

** لم أجد إلا الجامع  الذي يوجد قريبا من مكان السيارة دخلته وصليت هناك وجلست لكي أكتب الرسالة وكتبت فيها  عن رحلتي بالطائرة الى الأردن ووصفت لهم مدى استمتاعي  بهذه الرحلة  وقلت لهم أنني لم اصل بعد الى بغداد  وانني مازلت في منطقة الرطبة  لعمل الاجراءات الجمركية وان طالت هذه المدة سوف  ابيت في أحد الفنادق  بالمنطقة ... وفعلا فقد حاولت المبيت في أحد الفنادق بالمنطقة  لكني خفت أن تقوم السيارة في أي وقت  وتضيع معها حقيبتي

عندما كتبت هذه الرسالة في اليوم الأول بالرطبة سألت أحد العساكر العراقيين ( فين البوستة ) فاجابني " ماكو " منذ هذه اللحظة عرفت أن هذه الكلمة تعني لا يوجد ... علافت ايضا  أن كلمة بوستة غير موجودة عندهم ويقولون بريد  ... وعندما عرفت مكان مكتب البريد ذهبت لشراء طابع بريد  وعندما أعطيت الموظف خمسة دنانير قال لي جيب خردة ، كانت كلمة خردة هي ثاني كلمة عراقية غريبة أتعلمها وهي تعني ( فكة ) باللهجة المصرية

** عانيت كثيرا في الأيام التالية في منطقة الرطبة ... قلق شديد  وتعب نفسي وجسدي ...لدرجة أنني في كثير من اللحظات كنت أندم على قيامي بهذه المجاذفة وأشعر من كثرة التفكير أن رأسي يحتقن واصاب بصداع أشفى منه بعد فترة وأحمد الله على منحي قوة احتمال أواجه بها هذه الظروف

** انتهت اجرءات الهوية وقامت السيارة في أرض العراق متجهة الى بغداد شعرت بارتياح نسبي عندما اجد السيارة تتحرك وتسير بسرعة  رغم احساسي بالعطش الغريب  نتيجة الجو الجاف  الذي لم أمر به من قبل

كنت على استعداد أن اشرب من أي اناء ومن أي ماء سواء نظيف أو غير نظيف

** شعرت بارتياح نسبي ولكن الأمر لم يعد بسيطا  وسهلا كما كان من قبل ، وبدأت أتساءل هل الأمر يستحق كل هذا العناء  والتعب والمغامرة ، هل سأحصل على مكسب يعوضني ما عانيته  وسوف أعانيه من هذه الرحلة الشاقة

** بعد فترة طويلة من المرور في طريق صحراوي شديد الحرارة  بالسيارة البالية التي لا تحمي من أي حرارة أو تراب

(( الوصول الى بغداد ))

** وصلت الى بغداد ليلا وكانت أول منطقة أنزل فيها الى بغداد هي جراج العلاوي ومنه مشيت بحقائبي مع أحد ركاب الباص التي كانت له اول مرة يسافر أيضا الى العراق وعرض علي هذا الشخص أن أذهب معه الى منطقة معينة حيث يوجد له أقارب بها ، لكنني صممت أن أذهب الى شارع الرشيد الذي كنت أسمع عنه في مصر أنه شارع عتيق به عدد من الفنادق الشعبية  الرخيصة ، اقتنع هذا الشخص  أن يقضي الليلة في أي فندق في شارع الرشيد حتى يأتي الصباح فيغادر الفندق الى حيث ما يريد .

** سلكنا طريقنا الى شارع الرشيد بمساعدة أحد المصريين المقيمين هناك والذي حمل لي حقيبتي بعض الوقت حتى يساعدني ويخفف عني التعب والارهاق الذي يبدو بكل تأكيد على وجهي وكل جسمي .

** أعجبني هذا السلوك من هذا الشخص وشعرت بقدر من التفاؤل وبدأت أنظر الى شارع الرشيد بصورته التي كانت في خيالي وهي لم تختلف كثيرا عن الصور التي كانت في توقعي .

** بمجرد عبورنا جسر التحرير المؤدي الى شارع الرشيد اتجهنا يمينا الى أول فندق يقابلنا فندق دهوك وصعدت فيه أنا والشخص الذي كان مرافقا لي في السيارة  واستأجرنا ليلة وبتنا بالصالة لأن جميع الغرف مشغولة

كان الفندق على درجة كبيرة من الاهمال لكنني كنت مضطرا  للمبيت فيه في هذه الليلة  ولم يكن عندي استعداد أن ابحث عن فندق آخر

** أول ما فعلته  بعد صعودي الى الفندق وتسجيل اسمي  وتسليم حقيبتي الى الأمانات هو دخولي الحمام للاستحمام ولم يكن إلا خيط رفيع  من المياه من حنفية منخفضة ، غيرت ملابسي وارتديت البيجامة وغسلت كل ملابسي وكأنني أريد أن أتخلص من جميع المشاكل الماضية

** شعرت بعد ارتداء البيجامة براحة غريبة كنت محروما منها لمدة ثلاثة ايام

** أصبحت الأيام الثلاثة الماضية مثل حلم مزعج وانتهى وكأن اليوم هو بداية الرحلة

** سألت عن أحد الأماكن التي يباع بها الأكل فأرشدني أحد المقيمين بالفندق الى المربعة وهي منطقة قريبة جدا من الفندق

(( الذهاب الى المربعة ))

** ذهبت الى المربعة وتناولت طبقا من المكرونة عند أحد المطاعم التي يديرها المصريين

**رجعت بعد ذلك الى الفندق حيث نمت لأول مرة بعد أكثر من ثلاثة ايام  لم أنامهم ، صحوت كعادتي في الصباح المبكر وغيرت ملابسي واستعددت لاستقبال أول نهار لي في  العراق .

** وسلمت على الشخص الذي يرافقني حيث غادر هو الفندق الى  المكان الذي يريده ، وشعرت بارتياح عندما وجدت نفسي غير مرتبطا بأحد، وأن خطتي مازالت تسير كما أود .

(( مغادرة الفندق صباحا ))

** في اليوم التالي من وصولي بغداد غادرت أنا الفندق مؤقتا للذهاب الى الاشخاص الذين عرفت عناوينهم من مصر لكي أوصل لهم رسائلا من اهلهم ، وكانت هذه الخطوة هامة جدا لأنها كانت بداية الامساك بخيوط للتعرف على البلد وظروفها وأماكن العمل .

** كان أول هؤلاء الأشخاص في هذه القائمة هو أخ لمشرف في قصر الثقافة ...

**  نزلت من الفندق في صباح اليوم التالي من وصولي الى بغداد وأخذت الاوتوبيس المتوجه الى علاوي الحلة حيث يسكن هذا الشخص ، وجدت المكان الذي يسكنه غير نظيف وغير منظم ويطلق عليه حوش أي ( منزل ) تعجبت للمكان الذين يعيشون فيه هؤلاء المصرين في هذا الحوش  وتساءلت هل هم مجردين من الاحساس أم أنهم وصلوا الى حالة التبلد بالتدريج ، ان أكثرهم يكسبون من عملهم  في العراق فلماذا لا يبحثون عن مكان أفضل .

** لم أجد هذا الشخص في البيت ووعدني زملائه في السكن أن  يأخذوني معهم الى مكان عمله ، ذهبت اليه وعرفته من خلال تشابهه مع اخيه وقابلني بترحيب شديد  بطيقة ابن البلد المصري ، بلغته بأن أخاه يريد الذهاب له في العراق فوجدت ملامح وجهه تغيرت  وخيم الوجوم عليه كما لو كانت أصابته صاعقة قال لي أنه لا يجب أن يأتي الى العراق لأن الظروف صعبة جدا ، وقال لي أنه سوف يحاول بقدر الامكان أن يمنع أخاه من السفر الى العراق  ... صور لي هذا الشخص صعوبة المعيشة بالعراق  وصعوبة الحصول على عمل مجزي  وصور لي أن كل شيء صعب هناك

** لكنه في نهاية اللقاء وعدني بأنه سيحاول أن يجد عملا لي  عرض علي مبلغا من المال رفضته

** وبعد قضاء هذا المشوار ركبت الأوتوبيس للعودة الى الفندق فقلت للسائق نزلني عند أول شارع الرشيد

(( العودة والبحث عن الفندق الذي لم أعرف اسمه ))

** نزلت من الاوتوبيس وبحثت عن الفندق في أول الشارع فلم اجده ، وأنا لا أعرف اسمه ، ولا أعرف أي اسم من العاملين بالفندق  ، قلت ربما يكون أول الشارع منن الجهة الأخرى فسألت عن الجهة الأخرى من شارع الرشيد  قالوا انها ساحة الميدان ، فركبت الاوتوبيس وقلت للسائق نزلني ساحة الميدان ومن هناك بحثت عن الفندق في شارع الرشيد لم أجده أدركت أن الفندق لابد وأن يكون في مكان آخر غير أول الشارع ، فحمدت الله على أن معي أوراقي وفلوسي ، وعزمت على المشي بطول الشارع للبحث عن الفندق وكانت المداخل متشابهة ، ولم أضطرب كثيرا لأنني اعتدت على كثير من المواقف الصعبة منذ خروجي للسفر ، وطال المشي في الجو الحار ، وبدأت الوساوس تحدثني : ربما يكون الفندق ليس في شارع الرشيد وقد يكون في شارع فرعي ، الى أن وجدت منطقة يبيعون فيها الطعام ، نعم انها المنطقة التي أكلت فيها المكرونة في الليلة السابقة ، ويبدو أن معدتي هي التي هدتني الى هذا المكان ،

فركزت في البحث في هذه المنطقة حتى عرفت الفندق واسمه ( فندق دهوك ) وصعدت اليه .

** ثم بدأت في كتابة رسالة لأسرتي لكي أطمئنهم على وصولي بغداد وقلت لهم انني ابحث عن عمل وأن كل شيء على ما يرام ، لكنني لم أعطيهم عنواني بهذا الفندق (  دهوك ) لأنني كنت انوي الذهاب الى فندق آخر

وطلبت من الأسرة أن يراسلوني على عنوان الشخص الذي ذهبت اليه في هذا اليوم الى أن استقر في فندق آخر

** لذلك فإنني حرصت على التردد على هذا الشخص وصحبته من المصريين الذين من الاسكندرية  من أجل  الرسائل المستقبلة من الأسرة ، كما ارسلت مع أحدهم رسالة لكي يبعثها عند وصوله مصر بالبريد المصري

(( كانت الأسرة تهمني كثيرا ))

** كانت الأسرة تهمني كثيرا رغم انشغالي بأمور شخصية كثيرة كافية لكي  تنسيني كل شيء ، ونظرا لأنه من طبعي أن اتخيل نفسي في موقف الآخرين فكنت أتخيل نفسي دائما في موقفهم وموقف أمي عندما يسمعون عن الحرب في العراق  وعندما يسمعون مبالغات  وتخويف الناس لهم ... كنت أتخيل نفسي  في موقفهم عندما أفارقهم الى مكان مجهول  ولا يعرفون عني إلا أنني ركبت الطائرة متوجها الى العراق عن طريق الأردن حتى وإن كانوا يعرفون بعذ العنواوين  التي سوف أذهب اليها  لن يفيدهم ذلك بشيء .

(( زيارة مدينة الاسكندرية بمحافظة بابل ))

** الزيارة التالية كانت الى صديق خالي والذي يعمل مدرسا للتدريب المهني  في منطقة تبعد 40 عن بغداد تسمى االاسكندرية ، ذهبت اليه في مسكنه التابع للعمل وكان لم يأت بعد من عمله  فانتظرت مع الحارس العراقي  الذي يلبس العقار وكان الحديث حول الحيالة الصعبة والمشاكل المتعددة وعندما كان يتحدث عن قسوة الحرب وكثرة الشهداء  كنت أتحفظ في الرد عليه وأقول له ان الناس كلهم تعبانين ، ومن هذا الرجل عرفت كلمة ( نفوس هواية) وتعني ( ناس كثيرين )

** عندما حضر صديق خالي / الاستاذ أحمد قاسم – دخلت مسكنه وكان نظيفا جدا ومرتبا وهادئا  وبعد الغذء شاهدت التليفزيون وكانت هذه هي أول مرة أشاهد فيها التليفزيون العراقي  ، وجذبني السلام الوطني العراقي ، وأحسست أن هذه الموسيقى لم تكن غريبة على اذني  ربما سمعتها في الايام السابقة من أحد أجهزة الراديو

جلست معه كثيرا وتحدثنا عن فرص العمل، وتمنيت أن يوفقني الله في الحصول على عمل وسكن جيد مثله.

** عرض علي هذا الشخص المبيت كما عرض علي بعض الفلوس ولكني رفضت .

** وفي طريق عودتي الى بغداد  وفي الليل كنت أتخذ  العديد من  المواصلات واتعامل مع كثير من الناس من مختلف الجنسيات .

** حرصت بعد ذلك أن أكرر الزيارة عنده كل أسبوع تقريبا للتمتع بجو هادئ واستقرار وقبلت أن أات عنده ليلة  اتذكر أنه من شدة السكون ليلا عنده اعتقدت أنني فقدت السمع ولكي أطمئن على  حاسة السمع كنت أخدش المخدة بأظافري حتى أتأكد أنني قادر على السمع .

** لم أثقل عليه بالحديث عن فرص العمل حتى لا افقده صديقا اتزاور معه ، وكنت أفضل البحث بمفردي عن عمل بالمطاعم والفنادق ومحلات التصوير .

(( زيارة الدكتور العراقي ))

** الزيارة التالية كانت للدكتور العراقي الذي يعمل في محطة البحوث في منطقة أبو غريب التي تبعد قليلا عن بغداد

** وفي طريق ذهابي اليه بحثت عن رقم الاوتوبيس المؤدي الى أبو غريب  وتعمدت أن أسال العراقيين دون المصريين حتى يمكن لي أن أتعرف على طباعهم وثفاتهم فأجد أول ملحوظة عنهم وهي أنني عندما أسألهم عن مكان أجديهم يجيبوني بطريقة مختصرة جدا ومفيدة وبعبارات مركزة على سبيل المثال يقول أحدهم ما معناه ( اذهب الى آخر الشارع ثم اسأل هناك ) لاحظت أنني لم اسمع منهم عبارات مشابهة لهذه العبارات المصرية التي يحشون بها الكلام ( صلي على النبي – شوف بقى لا مواخذة – معلش أنا معرفش ياريت كنت أعرف ) لاحظت منهم الذي لا يعرف المكان يقول ( ما أعرف ) ولا يبالغ في عبارات الاعتذار أو التأسف ... أذكر أنه في ذلك اليوم أيضا عندما سألت شابا صغيرا عن مكان الاوتوبيس المؤدي الى أبو غريب لم أجد منه إلا اشارة بمعنى ( اتبعني ) فاتبعته الى أن أوصلني الى مكان الاوتوبيس ...؟ وفي طريقي معه الى الأوتوبيس كنت أشك في أن يكون مصريا لأنني لم أسمع منه كلاما رغم سنه الصغير ، والذي يجعلني فقط أن أقول عنه عراقيا هو اختلاف طباعه

** وبداخل الاوتوبيس الى أبو غريب كانت الملحوظة الجديدة وهي أن رجلا عراقيا حاول أن يدخن بداخل الاوتوبيس فمنعه شخص آخر على الفور بكلمات مختصرة وبدون أي تعليقات

** وبداخل الاوتوبيس تعرفت على شخص مصري نبهني الى التقديم في الوزارات  المختلفة  للحصول على عمل حكومي

** وصلت الى محطة البحوث لكنني لم أجد الدكتور عرفت مواعيده  وذهبت اليه يوم آخر  واستقبلني استقبالاعاديا  وقال لي ايش لونك وقلت له الله يسلمك  وطلب مني الجلوسوقال لي ( الله بالخير )  فاحتر بالاجابة فوجه كلامه الى أحد الجالسين بجواره قائلا  ان علاء جاي جديد من مصر ثم شرح لي أنها تعني ( صبحكم الله بالخير )

** ثم ردد كلمة ازيك فوجدت هذه الكلمة تخرج غريبة منه في هذه المرة ثم بدأ يتحدث معي باللهجة المصرية ويسألني عن الزملاء بمصر  وعن أحوالهم وبدأ استرجاع الذكريات في العمل بمزرعة كلية الزراعة بالاسكندرية  وشاركنا في الحديث بعض المهندسين والدكاترة العراقيين  الذين تحدثوا كثيرا عن مصر  وجمالها و حاولت  مجاملتهم بأن أقول لهم بغداد ايضا جميلة وعريقة ولاحظت أن الكثير منهم سافر الى القاهرة والاسكندرية

** شعرت أنهم انسجموا بالحديث معي وسألت الدكتور عن احتمال حصولي على عمل فقال لي مرة أخرى لا تتفاءل كثيرا  لأنه لا يوجد تعيين مهندسين زراعيين في هذه الفترة وأن العملا المؤقت غير متوفر بمركز البحوث  وأبدى أسفه على عدم لياقتي للأعمال الشاقة ، وخاصة عندما أظهرت له عدم الحاجة الملحة الى العمل  وقال لي لا تقلق واعتبر نفسك قادم للسياحة  وبعد ذلك عرفني على مهندس مصري لكي يفيدني في الحصول على عمل  ويفيدني بالاجراءات اللازمة لذلك ، ثم أوصلني الدكتور الى احدى السيارات التابعة للمركز  لتوصيلي الى بغداد مع بعض الموظفين واعتذر لي عن عدم استطاعته استقبالي في هذا اليوم بمنزله ببغداد  لأنه سوف يذهب الى زوجته بمكان آخر

كان من الطبيعي أن اصدقه  لأنني لم أتعود منه على الكذب  في مصر والتمست له عذرا هاما وهو أن العراقيين في هذه الفترة يتعرضون لظروف تجعلهم أكثر حذرا في كلامهم ، فقد كان هذا الدكتور أكثر تحررا في مصر عندما كان يشيد باتقاني لعملي أمام الزملاء لدرجة أنه قال ذات يوم أمام الزملاء في مصر  أن علاء صحح لي بعض الأخطاء في عملي .

** غادرت مركز البحوث وتواعدت  مع المهندس المصري أن نتقابل معه في قهوة قريبة من الفندق الذي أسكنه ، وعندما وصلت بغداد وفي العصر التقيت مع المهندس المصري وقال لي ( لا تعتمد على هؤلاء العراقيين فإنهم جبناء  وهم لا يقدمون الخدمة لأي أحد  وانهم يتكلمون جيدا فقط )

** توقعت من هذا الكلام أن يساعدني هذا المهندس  وخاصة أنه يستأجر مطعما باسمه قريبا  من المقهى التي نجلس فيها  وقريبا من الفندق الذي أسكن به

** كل ما فعله هذا المهندس أنه استقبلني استقبالا حافلا في المطعم  الذي يستأجره  وقدم لي غذاءا جيدا  وجلسنا نتذكر أيام الكلية  وعرفت أنه خريج زراعة كفر الشيخ  وهو يسبقني بسنتين  أو ثلاثة في التخرج وفي نهاية المقابلة عرض علي مبلغ من المال ورفضت كالمعتاد وشكرته كالمعتاد

ووعدني أنه سيحاول أن يبحث لي عن عمل كالمعتاد أيضا

** وانتهت مقابلتي معه وطلب مني أن أحضر اليه من الحين الى الآخر  في العصر حيث يجلس في هذه المقهى المجاورة لمطعمه

** وفعلا حرصت أن اتردد عليه كثير من المرات  ولا أنكر أنه نصحني بالاحتراس من الفندق  الذي أسكن فيه والمنطقة الموبوءة بالمصريين الاشقياء الذين يعيشون عالة على غيرهم يقترضون من هذا وذلك ولا يردون الأموال ، ولا أنكر أنه أرشدني الى التقديم في الوزارات  المختلفة كنوع من المحاولة

وكان يحذرني من التقديم بوزارة التربية والعمل بالتدريس حتى لا أضطر للانضمام الى حزب البعث  المعارض للحكومة المصرية 

** أذكر أنني في أول ذهابي الى أبو غريب وعندما لم أجد الدكتور العراقي / عباس اضطررت الى العودة بواسطة تاكسي كان يسوقه أحد العراقيين  العسكريين كما كان مألوفا عندهم وفي الطريق كنت أتحدث مع السائق وجدته هادئا ومتزنا  لا يتصرف بعصبية في القيادة ولا يستعمل الكلاكسات الا نادرا  وسألته عن أحد المساجد  التي تبدو في طريقنافيقول لي أنه مسجد أم الطبول فقلت له لأول مرة أجد مسجدا في العراق يشبه مساجدنا في مصر ، وعندما سألته عن قيمة الأجرة قال لا تدفع شيئا صممت على دفع 200 فلس وعندما قال لي أحد الركاب أن اجرة 250 فلس رفض السائق أخذ ال50 فلس الباقي وقال لي في أمان الله وكانت هذه الكلمة جديدة

(( مقابلة صديق من الكلية ))

** أثناء سيري بشارع الرشيد في بغداد قابلت صديقا سابقا بالكلية كان يعمل بأحد الفنادق السياحية بالعراق منذ سنة أو سنتين وتبادلنا الحديث فترة طويلة من الوقت في احدى المقاهي وتناولت معه غذاءا جيدا في احد المطاعم وعرفت منه أنه عانى الكثير حتى وجد فرصة عمل وحكى لي عن حادثة سيارة تعرض لها عند بدء مجيئه الى العراق ، وأنه يتمنى أن يساعد والديه في أداء فريضة الحج

سألته عن امكانية العمل بالفنادق السياحية  فقال لي ممكن تاخد مكاني بعد ما اسافر الى مصر

ووعدني أن يأتي الي في الفندق الذي أسكنه في يوم معين ولكنه لم يحضر ولم يترك أو يبعث لي أي رسالة على هذا الفندق الذي أسكنه وانتهى بذلك كل شيء عن هذا الشخص

(( شخص آخر أفادني رغم أنني لم أعرفه من مصر ))

** وبعد ذلك قابلت شخصا آخر  قد قابلته في الباص المتوجه الى ابو غريب  وسألني عن أحوالي وعما اذا كنت حصلت على عمل

** والعجيب أن هذا الشخص هو صاحب الفضل الكبير  في اعطائي خط سير دقيق  لما افعله بالتفصيل من ذهاب الى الوزارات  المختلفة بعد أن كنت حائرا بين الذهاب الى مكاتب العمل  الخاصة بعديمي المؤهلات أو المؤهلات المتوسطة .

** أرشدني الى ضرورة الذهاب الى وزارة التخطيط  والتي منها عرفت  أنه من المحتمل أن تكون وزارة التربية محتاجة تخصصي  للعمل في التدريس ، ذهبت الى وزارة التربية وعلمت منهم  أنهم يطلبون مدرسين  وفي هذا اليوم ذهبت على الفور بواسطة تاكسي الى حي المنصور لكي أوثق شهاداتي من القنصلية  المصرية ومنها الى وزارة الخارجية العراقية  وفي اليوم التالي قدمت  الشهادة وملأت بعض الاستمارات  وأعطوني ميعادا أحضر فيه بعد اكثر من شهر

** كان هذا الوقت طويلا ومن الممكن عدم قبولي بعد طول الانتظار ، وقد تكون اختبارات شخصية أو رشاوي وقد يكون اشتراك اجباري في الحزب . .

** عزمت أن ابذل المزيد من الجهد في البحث عن عمل مؤقت ، تقابلت مع الكثيرين وتعرفت على الكثيرين وأثناء فترة البحث حرصت على الذهاب الى مكتب البريد لكتابة الرسائل لطمأنة الأسرة وقلت لهم أن الفلوس تكفيني لمدة طويلة  وأن فرص العمل متوقعة

(( الهروب من الحر الشديد ))

** كنت أقضي في مكتب البريد مدة طويلة هربا من حرارة الجو وطمعا في الاستمتاع بالتكييف المركزي بمكتب البريد

** كما كنت أضطر الى الدخول في المقاهي المكيفة  أو الذهاب الى السينما ، وقضيت أياما كثيرة لا أذهب الى الفندق الا ليلا لأنني لا أسكن بغرفة بالفندق بل أنام في سرير بالسطح أو بالصالة

(( البحث عن عمل مع أحد الاشخاص الغير متعلمين ))

** ومن خلال تعاملي مع افراد من الفندق تعرفت على شخص من الاسكندرية غير متعلم طلب مني أن أذهب معه  للعمل مع مقاول في أعمال المعمار  ولكني لم أوافق ، وأقنعته أننا لابد  من البحث عن عمل بالمطاعم فهو أفضل من المعمار ، بحثنا بالفعل حتى وجدنا فرصة عمل حيث وعدنا صاحب العمل أنه سوف يشغلنا عنده بدلا من أبنائه الذين سيتركون العمل في فترة المدارس المقبلة واشترط علينا عمل بطاقة صحية وتواعدنا على يوم لعمل الشهادة الصحية ولم يحضر فذهبت بمفردي لعمل اجراءات البطاقة الصحية وكشفت طبي شامل ولكني لم اهتم باستكمال الاجراءات

** في عصر ذلك اليوم ذهبت الى الزميل لمعرفة سبب عدم حضوره لعمل البطاقة الصحية لم أجده فذهبت الى صاحب العمل ( المطعم ) فقال تعالى انت وزميلك  لأنني لم أعرفك  انني أعرف زميلك فقط ، حاولت الاتصال بهذا الزميل لم أجده ولم استكمل عمل البطاقة الصحية

(( توصيل رسائل من  أصدقاء بالاسكندرية عسى أن يدلوني على عمل ))

** الخطوة التالية كانت زيارتي لطالب من طرف أحد الاصدقاء وصديق أخي  ولم أكن أعرفه من قبل  وذهبت اليه بواسطة العنوان المكتوب عندي في نوتة صغيرة مع كثير من العناوين  وفي هذا اليوم لم أجده فتركت له الرسالة التي أحملها مع أحد الزملاء  الذي استقبلني استقبالا جيدا  وطلب أن أحضر لهم مرة ثانية  وكان هذا الطالب طالبا أيضا في احدى الكليات ويعمل في فترة الاجازة  وكان متدينا لذلك فكان معظم  الحديث يدور حول صيام رمضان في الجو الحار  وتعجبت من كلامه أنه استطاع أن يصوم شهر رمضان كله في هذا الجو الحار في حين أنني  لا أستطيع الابقاء ساعة واحدة دون أن أشرب قدرا من الماء أو المشروبات الغزاية أو العصير

** وعدت هذا الشخص ان أحضر اليه  يوما ما ولكن لم يحدث ذلك لأنه يسكن في مكان بعيد في أطراف المدينة وقد أصابتني ضربة شمس في يوم زيارته

** كنت كلما أنظر الى الرسائل التي مازالت معي ولم أوصلها الى أصحابها  أن علي واجبا لابد من عمله ، وقد كان هدفي الأكبر هو توصيل الرسائل كأمانات وكان الهدف الثاني هو التعرف على مزيد من الناس والبحث عن فرصة عمل

(( الرسالة الأخيرة التي أوصلتها ))

** وكانت الرسالة الاخيرة التي استبقيتها لشخص يعمل في محافظة الانبار وكان عنوانه على فندق عشتار – مدينة الرمادي

** ركبت السيارة متوجهة الى مدينة الرمادي ومتوقعا أن تكون الرحلة سهلة لأنني ذاهب الى عاصمة المحافظة  مدينة الرمادي .

** وفي الطريق حرصت على مراقبة سلوك السائقين فلاحظت جدية في العمل وقليل من المزاح  وفي الطريق تكثر اللوحات الفوسفورية

وعندما وصلت الى المدينة وبحثت عن فندق عشتار  فوجدته في منطقة بعيدة  عن موقف السيارات  فذهبت اليه ماشيا  وعندما أصل الفندق  وأسأل عن الشخص صاحب الرسالة  يقولون أنه لا يوجد أحد بهذا الاسم ثم يجيب شخص آخر فيقول  ربما يكون هذا الشخص يعمل في استراحة قريبة  وتصله الرسائل عن طريق فندقنا  ويعطيني رقم الكيلو 30 كان من الممكن أن أعطي له الرسالة لكنني أردت أن اتمم جميلي وقد يكون عن طريقه فرصة عمل

** لم أتمكن من الحصول على سيارة ميكروباص ولم يكن أمامي الا الركوب اوتوستوب مع سيارة نقل وقبل صعودي الى السيارة قال لي السائق سوف اوصلك الى مكلن قريب من هذا المنطقة ( الكيلو 30) لأن طريقنا مختلف ووجدت أحد الركاب بالسيارة النقل يقول لي ما معناه : لماذا لم تركب سيارة أجرة؟ انت فاكر نفسك في مصر ؟ أي واحد ممكن يوصلك ، اننا العراقيين ناس غير طيبيبن .

بعد أن أوصلني هذا السائق الى مكان قريب من المتفق عليه عرضت عليه مبلغ مناسب لكنه لم يقبله وقال لي ما معناه هذا واجب علينا واحنا كلنا عرب و ( ماكو فرق بين مصري وعراقي )

(( صدفة غريبة والالتقاء بالشخص الذي ابحث عنه ))

** نزلت من السيارة النقل ووجدت استراحة وكان من الطبيعي أن أدخل هذه الاستراحة لكي استريح من الجو الحار  ولكي أشرب الماء الذي أحتاجه ، وعندما دخلت الاستراحة فوجئت بالشخص الذي أبحث عنه يقوم بتقديم الطلبات ويستقبلني بترحيب شديد واسلمه الرسالة واحكي له على الصدفة الغريبة التي أنقذتني من متاعب كثيرة كان من الممكن حدوثها ، وحكى لي عن الصدفة الغريبة التي جعلته يعمل في هذا المكان بمجرد مجيئه من الأردن  ونزوله في هذه الاستراحة طلب منه صاحب الاستراحة أن يعمل عنده فقبل العمل دون أن يذهب الى بغداد أو إلى أي مدينة عراقية أخرى حتى ذلك الوقت ، شعرت عند ذلك أن الانسان مهما يخطط ويدبر فإن الله يفعل ما يريد وتأملت في صدفته وفي صدفتي أيضا التي جعلتني اصل اليه وبذلك انتهيت من توصيل الرسائل الى أصحابها

** فكرت قليلا في هذا المكان الموحش الذي يعيش فيه هذا الشخص وطلبت منه فورا أن يوقف لي سيارة متجهة الى بغداد ، ولا أتذكر أنني فكرت ثانية واحدة في قبول العمل في هذه المنطقة الصحراوية

ركبت سيارة  متجهة الى بغداد وعندما اقتربت الى بغداد حدث عطل في الطريق أدى الى تعطل السيارات ووقوفها في منطقة الفلوجة واضطررت الى المبيت في الفلوجة في فندق فاخر في هذا اليوم وكانت فرصة لي لكي استحم واستعيد نشاطي وصحتي وفي صباح اليوم التالي رجعت الى بغداد .

(( الانتقال الى فندق آخر ))

** وجدت انه حان الوقت للانتقال الى فندق آخر غير هذا الفندق الذي أسكنه في بغداد ( فندق دهوك ) وفي طريقي قابلت أحد الاشخاص الذي تقابلت معهم في وزارة التربية  والذي كان ينتظر أيضا تعيينه مدرس ، عرفت انه سوف ينتقل الى محافظة أخرى غير بغداد  لكي يعمل بها لحين التعيين  وانه سوف يغادر الفندق الذي يسكنه سألته عن اسم الفندق قال لي فندق ( زين القوس ) بمنطقة علاوي الحلة

** ذهبت لمشاهدة الفندق أعجبني نظافته والهدوء الذي يميزه طلبت من صاحب الفندق أن يحجز لي في احد الغرف فقال لي أنه لا يوجد مكان شاغر إلا في السطح فوافقت ودفعت  الفلوس على أساس أن الفندق نظيف ولابد أن السطح سوف يكون نظيفا أيضا ، اسرعت الى الفندق السابق وأخذت حقائبي ونقلتها الى هذا الفندق ففوجئت  بمسجل الفندق العراقي يطالبني بأجر الليلة الماضية التي بت فيها بالفلوجة  والليلة الحالية التي لم اباتها  وذلك بحجة أن مكاني كان محجوز في الليلتين أعطيته الفلوس وأخذت الحقيبتين وتوجهت الى الفندق الجديد ماشيا على قدمي مسافة طويلة والقيت الحقيبتين أمامي في صالة الفندق الجديد وجلست لى الأريكة لكي أستريع من المشوار الطويل

دخلت لمسجل الفندق / أبو صلاح سألته هل يمكن أن أصعد الى السطح كي أستريح  فقال لي استرح حنا حتى تخف حرارة السطح

ويبدو أن منظري المتعب أثار شفقة هذا الرجل  ويبدو أنه ظن أنني قادما من مصر في هذه اللحظة ، قال الي ادخل هذه الغرفة وبدل ملابسك  واسترح حتى يأتي الليل ثم تصعد الى السطح

دخلت الغرفة وهي غرفة رقم 1  وهي غرفة كبيرة مكيفة خاصة بموظفي الفندق  وبعض المصريين المثقفين

** كانت هذه الفعلة بداية اطمئناني الى أن هناك من يقدرون  النواحي الانسانية ، فقد أدخلني صاحب الفندق غرفته بمجرد أنه اطمئن لي ووجدته يصبرني على المبيت بالسطح ووعدني أن يوفر لي مكان جيد بالفندق ، وأثناء جلوسي بالصالة كان يحكي عن مدينة البصرة التي هي مدينته الأصلية ويحكي عن أفخر أنواع التمور العراقية

** وعندما قلت له أنني قدمت في وزارة التربية كان ينصحني كما لو كنت اخ له فيقول لي كن حازما مع الطلاب لأنهم دائما يحبون المدرس المصري لأنه يتساهل معهم

لم يكن هذا العراقي الوحيد  الذي لمست فيه الاخلاق الحميدة فكان بالفندق أيضا أبو طارق وهو يعمل أيضا مسجلا بالفندق ووعدني بأن يوفر لي مكان غير السطح وبالفعل نفذ وعده كما سيأتي الذكر فيما بعد .

(( العامل المصري أبو عصام ))

** حدث ذلك في حين أن أحد عمال النظافة المصري ( ابو عصام ) والذي كانت عيناه دائما لا تنطقان إلا بالخبث والدهاء والحقد كان يجلس على الكرسي مزهوا بشاربه الكثيف  الذي يربيه تقلدا بالعراقيين ، ويعايب عليهم ،  أما أمامهم فكان العبد المطيع ، كرهت ذلك الشخص وكرهت ايماءاته ولو كانت له رائحة لكرهتها أيضا ، ويبدو أنه كان يبادلني الكراهية فقد كان يتغمز على شدة اهتمامي بنفسي وحقائبي التي كنت اضعها في غرفتهم ، وسمعته ذات يوم يقول ايه دا ياخويا الشنط دي هوا جاي من تركيا ، كان من الممكن أن أرد عليه نعم انا لست مثل عامة المصريين فأنا لا أستطيع العمل بالنظافة في الفنادق ولكني أتيت من أجل عمل يناسبني ، ولكني لم اندفع وارد عليه برد يجرح آخرين .

** كانت الخطوة التالية في البحث عن عمل هو ذهابي لمكان عمل لشقيق صديق خالي الذي يعمل مهندسا زراعيا في مصنع علف في بغداد  ، لم يكن هذا الشخص قد حضر بعد من اجازته بمصر ، ترددت في الذهاب اليه قبل عودته من مصر حتى لا يعتقد البعض أنني أريد أن أعمل بدلا منه، وعن طريق أحد العاملين بالمفقس علمت أن المهندس الزراعي يعمل عاملا وليس مهندسا زراعيا رغم أنه يحمل بكالوريوس زراعة ، وعندما تقابلت مع مدير المفقس أبدى استعداده لعملي مهندس زراعي بالمفقس وعرفني على فنيات العمل بالتفصيل حتى أستطيع أن اجتاز الاختبارات والمقابلة مع مسئول التشغيل في شارع الجمهورية، وعندما ذهبت للمسئول، وقلت له أن مدير المفقس يوافق على تشغيلي بالمفقس ، لم يحفل بهذا الكلام وسألني :هل سبق لك العمل بشركة دواجن؟ قلت : لا  ، كانت الاجابة (ماكو) وعرفت أن هذه الكلمة كلمة قاطعة  ولا تجدي بعدها المفاوضات .

** رجعت الى المفقس مرة أخرى وشرحت له ما حدث فوعدني أن يذهب معي الى هذا الموظف وسوف يرغمه على الموافقة على عملي، وأوصى احدى الموظفات بتعليمي كل شيء عن العمل وبالفعل شرحت لي كل صغيرة وكبيرة مثل متابعة الحرارة وفرز الابيض والكتاكيت والعلائق وتركيبها وغير ذلك  وقال لي أن المرتب سوف يكون120 جنيه بالاضافة الى السكن التابع للعمل ، وقال مدلي مدير المفقس ان العمل لا يحتاج الى شهادة دراسية  واننا سوف نعطيك الشهادة العملية وانني سوف أذهب معك الى هذا الموظف في بغداد، وخلال مقابلتي مع مدير المفقس لاحظته يوجه اللوم الى أحد المهندسين المصريين كان يتحدث مع بعض الزوار في موضوعات تخص سرية العمل، وأخيرا ذهب معي الى بغداد شارع الجمهورية الى الموظف المسئول وبعد جهد كبير في ركن السيارة وبعد الوصول الى الشخص لم نجده ، وطلب مني مدير المفقس الذهاب اليه مة أخرى وقال لي اتصل بي على هذا الرقم لكي تخبرني بالنتيجة ، تكرر ذهاب ولم أجد الموظف

(( بداية أمل في الحصول على عمل ))

** اهتديت الى فكرة البحث عن عمل في المنطقة المجاورة للمفقس ، وعانيت من الحر الشديد ، الى أن شاهدت حارس سوداني لمصنع بسكوت سألته عن فرصة عمل أجابني بـ نعم وقال لي تعالى غدا  وممكن اشغلك عندنا

** رجعت الى الفندق مبتهجا وواثقا في ذلك الشخص ، وتناولت غذاءا جيدا في أحد المطاعم

** كما أنني في الطريق توجهت الى مكتب سياحة في شارع الجمهورية  الباب الشرقي  وطلبت منهم خريطة للعراق  ثم رجعت اليهم مرة أخرى لأخذ خريطة مفصلة لبغداد ، ولاحظت استغرابا من  نظرات الموظفين في شركة السياحة  لأنهم لم يعتادوا على أن المصري يأتي لأغراض السياحة

** كانت الخرائط لها أهمية كبيرة في تحركاتي اليومية وكانت تغنيني عن كثرة الأسئلة والاستفسارات ، كما عرفت من خلالها أماكن يمكن زيارتها للاستمتاع بها كما سوف يأتي الذكر فيما بعد .

** في اليوم التالي لتقابلي مع الحارس السوداني ذهبت في الصباح الباكر اليه وأعطيته جواز السفر لكي يسلمه اليهم لأجل تشغيلي عندهم

** وعندما دخلت فهمت  أنهم سيعينوني عاملا عاديا لحين احتياجهم لمهندس في المصنع … أخذ مني  الموظف المصري الباسبور  وشهادة دراسية …. كنت قلقا على وجود الباسبور عندهم  لأن ذلك سوف يقيدني  ولا يجعلني التقدم لعمل آخر ، كمال أنني لا استطيع الذهاب الى وزارة التربية  الا بعد استلام الباسبور وانهاء عملي بالمصتنع … كان من شروط المصنع ألا يقبلوا استقالتي الا بعد فترة معينة وغير ذلك من الشروط ، قبلتها لاحتياجي للعمل ولعدم ضمان العمل الحكومي  بالتادريس ، وقبلت على أمل  أنني سوف اتحجج بعدم ملائمة االعمل لي

(( العمل في مصنع بسكويت ابن البنية ))

** عملت في هذا المصنع مصنع بسكويت ابن البنية منذ الصباح حتى آخر النهار  ، لم يكن العمل مجهدا عضليا  لكنه كان ممل كثيرا لأبعد الحدود  بسبب طول الوقت وبسبب الضوضاء التي تسببها الماكينات وبسبب نوعية العاملين وقد كانوا جميعا تقريبا ممن المنصورة ومن القرى المجاورة ومنها قرية دميرة

** الى جانب هؤلا الفلاحين كان بالمصنع مجموعة من العمال  السودانيين المتعاقدين نمن السودان  وكانت الشركة توفر لهم وجبتين  للعمال يوميا  وتوفرلهم سكن تابع لها .

لكنني لم أسكن تابعا للشركة وفضلت السكن بالسطح بالفندق عن السكن الخاص بالعمال وهو سكن سيئ جدا لأبعد الحدود

** في هذا المصنع تعرفت على بعض الطلاب الجامعيين  الذين يعملون بالمصنع في العطلة الصيفية ، ولاحظت أنهم رغم ذلك فهم لا يختلفون عن أقاربهم الفلاحين بالطبائع المكروهة

(( سكن غير آدمي ))

** وفي أحد الأيام عرض أحد العمال أن أذهب معه الى السكن التابع للشكة ، ذهبت معه  وفوجئت بأن هذا السكن ليس إلا مجموعة من الغرفات  العشوائية التي لا أعرف حتى الآن هل هي من الصفيح أم الخشب أم الكرتون فقد كانت الغرف تبدو مثل  الخروق المرقعة بجميع المواد والالوان  ولا يمكن تمييزها عن أكوام الزبالة التي بجوارها ، وبداخل الغرف الأرض مكسوة بالزبالة وأعقاب السجائر بدلا من البلاط ، والسراير أماكن عالية قليلا عن الأرض ومراتبها لامعة  من تراكم القاذورات والعرق ، والبطانيات قد نحتتها الفيران بأشكال كثيرة تشغل الأبصار ،  وقدور الطعام تذهب الشهية ، والملابس التي لا يعرف لها لون معلقة على مسامير بالحوائط ، ومظهر الطعام لا تقبله الحيوانات .

** اما دورة المياه فلم تكن آدمية ولا حيوانية أيضا

** وأشد العجب أن سكان هذا المكان كانوا حريصين على شراء المسجلات  والتليفزيونات والتسامر في الكلام من أجل الكلام والتخاصم من أجل التفاهات – كلمة قيلت أو تحية لم ترد ....

كان هذا هو مسكن المصريين عمال المصنع ومنهم المتعلمين والغير متعلمين ، وبالتأكيد أن هذا المسكن اختاروه لأنفسهم  ولم يفرضه عليهم أحد .

(( مساكن السودانيين في فندق به تكييف مركزي منذ باب الشارع ))

** أما مسكن السودانيين فكانوا يسكنون سكنا تابعا  للشركة وفق عقود العمل المتفق عليها والسكن في فندق سرسنك  وهو فندق على مستوى جيد من النظافة وارضياته مغطاه بالسجاد والموكيت  وبه تكييف مركزي وبه استراحة لجميع السكان بها تليفزيون .

وكانت الشركة تستأجر لهؤلاء السودانيين سيارة ذهابا وايابا للعمل

** بدأت المقارنات تدور في عقلي كنت أجد مجموعة السودانيين أكثر تعاونا وتكاتفا وينالون كل الاحترام من العراقيين وعلى عكس ذلك كان المصريون  ، كنت أجد العمال السودانيين يهتمون بنظافة ملابسهم وبلاطيهم وكانوا اكثر هدوءا واتزانا وكان لهم رئيسا يمثلهم ولا يوجه اليهم الأوامر ولا يشتم ولا يتهكم من أحد ، وعند تبادل الحديث مع رئيس السودانيين قال لي ما معناه : أتعجب لأن الحكومة المصرية سمحت لهؤلاء الاطفال بالسفر والعمل بل وكذلك المتخلفين عقليا

** حرصت على مصادقة السودانيين والعودة معهم في السيارة المخصصة لهم

** لاحظت برودا ولا مبالاة عند العمال المصريين  وملابس قذرة وبلاطي عديمة اللون والشكل كريهة الرائحة .ولاحظت أن المصريين لهم أكثر من رئيس بل أنني ايقنت أنه لوتكونت مجموعة من اصنين مصريين لكان أحدهم رئيسا على الآخر والرئيس عادة هو الذي يستطيع الزعيق والشتم والسب ، والذي يحمل عقدا نفسية كثيرة فهو يبدل مواقع العمال كمثل قطع الشطرنج

** ومن هؤلاء الرؤساء شاب صغير ترك الابتدائية أو الاعدادية حاول هذا الشخص أن يمارس سلطته عليّ ولكن بمجرد أنني أوقفته عند حده  أصبح يتجنبني ولكنه ظل يمارس عقده على الآخرين .

** لم يكن طبعي الصد المباشر فقد كان صدري متسع  للجميع وكان من الممكن أن اتخذ هذا الشخص صديقا فقد كان لي أصدقاء من مختلف المستويات العلمية تبدأ من القاع الى القمة .

لم يكن العمل شاقا رغم معاناتي بمشكلات صحية مثل اضطرابات معوية وما شابه ذلك ، ولكن المشقة الكبرى هو احساسي بالانقباض عندما أجد طبائع غريبة تحركها العقد النفسية والأحقاد والكراهية والنفاق في عالم المصريين العاملين بهذا المصنع

** حاولت اقناع نفسي على الاستمرار  ولكني فشلت ، كنت أحسب أوقات العمل بالدقائق وكنت أفكر في انتهاء اليوم قبل بدايته

** وحتى أجعل الوقت يمر بسرعةكنت أقوم بالتهريج والكلام والضحك الهيستيري مع بعض الأشخاص

حتى شعرت أن عقلي يكاد يتعطل

** حدث ذات يوم صراخا من أحد العمال قد حشرت يده بين السيور وعلى الفور تم قطع التيار وانتهى الموضوع بسلام أو باصابة خفيفة .

** يوم آخر أسمع عن حريق في مساكن العمال التي تحدثت عنها تسبب عن هذا الحريق تأخر حضور العمال وكان من الممكن انتهاز هذه الفرصة للتحدث عن تحسين المساكن وتأمينها ضد الحرائق ولكن ما حدث أمامي هو  أن الرؤساء الكثيرين المصريين قاموا بدورهم في شتم العمال واجبارهم على العمل

** الى أن حدث في أحد الايام انفجارشديد ظننته انفجار في مخزن وقود سوف يؤدي الى احتراق المصنع بالكامل  ولكن علمت أنه انفجار في كابينة الكهرباء  نتيجة زيادة تحميل كهرباء أو ما شابه ذلك

** في لحظة الانفجار تزاحمت جميع الأفكار متتالية وسريعة اشتعال – اصابة – هروب أو موت - بطالة -  فشل – عودة الى مصر ثم كلام الناس توالت كل هذه الأفكار في لحظة واحدة وهي لحظة الانفجار .

(( قرار سريع بانهاء العمل ))

** منذ هذه اللحظة  أخذت قراري السريع بعدم الاستمرار بعد ال25يوم التي قضيتها بالمصنع ، اتخذت هذا القرار ولم أعرف بعد ما هو نتيجة التقديم لوظيفة مدرس ، لم أفكر فيما افعله بعد الاستقالة

وأمام هذا الاصرار لم يستطع أحد من الموظفين أن يقف في طريقي ويمنعني ، رغم أن نظام العمل يقيد الاستقالة بشروط كثيرة ، وعندما واجهني احد الموظفين بالشروط واجهته بالصد والاصرار وتم على الفور اعطائي جواز السفر وقد كان تسليم الجواز من أشد القيود التي تستعين بها الشركة على الاحتفاظ بالعامل .

** في أثناء عملي بمصنع البسكويت كنت اسكن في البداية بسطح فندق زين القوس – كما ذكرت – وكنت أصحو في الفجر على صوت مؤذن عراقي في جاكع مجاور للفندق  كنت أحب الاستماع اليه  ليس لجمال صوته فقط ولكن لغرابته ، كنت يوميا ألبس ملابسي في السطح واضمها في حقيبة واضعها في غرفة الامانات بالفندق  وبعد ذلك اتجه الى طريقي مشيا في الجو المعتدل صباحا  واعبر جسر التحرير الذي يقع على نهر دجلة وأثناء السير أتمتع برؤية طيور  النورس وأواصل سيري حتى أصل الى موقف سيارات الشركة فأصعد مع العمالا السودانيين ثم الى المصنع

** في أحد الأيام لم تأتي  سيارة الشركة  فاضطر العمال السودانيين أن يذهبوا الى الشركة بطريقة ما ، وظللت أنا واقفا مع عمال سودانيين آخرين يعملون في مصنع قريب  ثم استأجرنا تاكسي  يقوده سائق عراقي .... أثناء وجودنا بالسيارة دفعت لهم جزء من اجرة التاكسي فلم يقبلوا  وقالوا لي أننا سوف ندفع الأجرة كلها  لأننا سوف نستلمها من الشركة ... عند ذلك وجدت سائق التاكسي يغضب مننا ويقول ما معناه أن هذا يعتبر تحايل على الشركة وهذا سلوك غير جيد فيرد عليه واحدا من السودانيين فيقنعه أنني معهم في الشركة لكنني مازلت حديثا أجهل نظام الشركة .

** في طريقي صباحا الى الشركة كنت ألاحظ ماسحي  الاحذية  العراقيين يبدأون يومهم الجديد بملابس نظيفة  واندهشت لأحدهم كان  يرتدي على أكمامه قطعة قماش تحمي ملابسه من الاتساخ  شبهت علي هذه القطعة ما يرتديه شرطي المرور على أكمامه

** كما لا حظت أيضا أن الفلوس الورقية نظيفة وأنه لا أحد يقبل  التعامل بنقود بالية .

** ما لاحظته أن الملابس الشعبية تتميز بالنظافة والاتقان ، وأن احترام الملابس الشعبية لا يقل احتراما عن البدلة

** في هذه الفترة كنت أقضي معظم وقتي في المصنع ولكن عقلي كان دائما منتشرا في كل انحاء العراق وفي مصر  والأهل ،وكانت كل ملاحظة أسجلها بعقلي فالاحظ أن عمال النظافة يرتدون ملابس عاكسة للضوء ليلا . وفي البداية اندهشت لهذه الملابس وذكرتني بالملابس التي يرتديها الممثلين على المسرح .

** كنت أكتب كثيرا من هذه الملاحظات في رسائلي الى الأسرة واطلب منهم الاحتفاظ بهذه الرسائل كمذكرات لي ، لكنني لم أذكر كل شيء بالتفصيل حتى لا يصابون بالملل  أو القلق

** في هذه الفترة وأثناء التسامر  ليلا معغ أحد زملاء الفندق بالسطح وهو مصري يعمل بالنقاشة  افهم من حديثه أن مقاولا  مصريا يعمل عنده ويغالطه في الحساب وأصبح عليه دينا له يبلغ 200 دينار

** شخص آخر يبدد أمواله على الخمور ولا يبعث رسائلا الى أهله  للرد على رسائلهم التي هي انت عايش والا ميت ؟

** وعامل الفندق الذي تحدثت عنه يستغل طالب يبيع السندوتشات ولا يعطيه الثمن المعقول

** في غمرة هذه الملاحظات والتفنن في سرد الاحاديث  والحكايات المغلوطة من المصريين والتي يقصد بها تشويه الشخصية العراقية ولكنها في الحقيقة وبالنظرة العميقة تثبت عكس ذلك

** وكان بين الأحداديث أن المقاول العراقي ابن الـ ...... أخذ العمال وعندما تعذر العمل لسبب ما  أعطى لكل واحد يوميته وأوصلهم الى المكالن الذي أتوا منه .

(( الانتقال الى غرفة رقم  1))

وذات يوم وأثناء عودتي من العمل وجدت مسجل الفندق / طارق  يناديني ويقول لي أنه قد خلى مكان في عنبر (1) وانه يحتفظ بهذا المكان لي كما وعدني

** شكرته كثيرا وقال لي أحد عمال النظافة المصريين عم شعبان أنه كان السبب في اخلاء هذا النكان لي  فأصدقه وأعطيه نصف دينار مكافأة له وأحترم هذا الرجل عم شعبان  لكن لفترة معينة بعدها  تتكشف لي حقائق تقلب هذا الاحترام ، فيظهر منه  الكذب والنفاق والأحقاد وسوف يأتي الذكر فيما بعد بالتوضيح .

(( التعرف على أشخاص عراقيين ))

 ** عندما دخلت الغرفة رقم 1 وجدت بها شخصا عراقيا  تعرفت عليه واتضح أنه من مدينة النجف  وأ، تجنيده في بغداد  ولاحظت فيه صفات الاتزان والموضوعية في الحديث

وتعرفت أيضا على شخص كردي لم أكن أعرف جنسيته بالضبط فقد كان يتكلم باللهجة المصرية بطلاقة  بعد ذلك وجدته يتكلم العراقية بطلاقة فقلت له لا انت عراقي ، فقال لي لا أنا لست عراقي ،  فقلت له قد تون اردني قال لي أنا عراقي كردي  وشرح لي أن العراقيين ينقسمون الى عرب وأكراد  وقال لي أن الاكراد مشكلتهم شبيهه بالمشكلة الفلسطينية  لكنها لا تنال اهتماما في العالم فهم مشردين في العراق وسوريا وتركيا ايضا

** كان هذا الشخص ناقما على تركيا لأنهم غيروا حروفهم العربية اى الى اللاتينية  وقد بلغ الأمر الى  أ،هم جعلو الآذان باللغة التر كية

** عندما سألته  لماذا لا يفعل  الاكراد مثلهم  ويكتبون لغتهم باللاتينية فكان رده  انها الحروف التي كتب بها القرآن

** اتضح لي من كلامه أنه مسلم  سني ومثقف  ويتكلم بهدوء وموضوعية فلا يذكر كلمة ( كويس – وحش – أنا أحب – أنا أكره ) وشعرت أثناء التحدث معه أنني أقرأ كتاب جديد .

** في فترة سكني بهذه الغرفة حاولت في بعض الأيام أن استذكر دروس تعليم اللغة الانجليزية من الكتب التي أتيت بها من مصر ، تعمدت ذلك حتى اقلل من الاحتكاكات مع الأشخاص الغير مرغوبين

(( التنزه في حديقة الزوراء ))

** في هذه الفترة واثناء عملي في مصنع البسكويت كنت انتهز يوم الجمعة في الذهاب للصلاة في مسجد ابن البنية  ومنه الى حديقة الزوراء ( حديقة الحيوان ) حيث أقضي يوما ممتعا  في التجول بالحديقة الكبيرة جدا ، وفي الحديقة سألت عن فرصة عمل وكان ذلك طمعا شديدا في عمل  اصيب به هدفين

** واحيانا كنت أجلس على كرسي الحديقة واكتب رسالة الى الاسرة وعندما وجدت نفسي محتاجا للتحدث مع الاخرين تقدمت الى بعض الكوريين للتحدث معهم باللغة الاانجليزية للتدريب على اللغة كما اعتدت في مصر

** كما تحدثت أيضا مع العراقيين ومنهم ريفيين كانت لهم أول زيارة لهم بالحديقة ، وأثناء التحدث مع البسطاء لم ألاحظ أنهم جهلة لأنهم لا يتحدثون إلا فيما يفهمون ، ، حتى وان تحدثوا عن السياسة فهم يتناولون خطوط عريضة فقط   لا تكشف قلة ثقافتهم .

** وعندما اتحدث مع شخص متعلم كنت أشعر بنفس المتعة التي مع الشخص الغير متعلم فكل يتحدث في حدود معارفه

** لم ألاحظ كثيرا كلمة أنا في أحاديثهم ، كما لاحظت أيضا قلة عبارات الحشو ، ودائما يتحدثون بالاختصار ولا يرجعون كل الأسباب للقضاء والقدر .

** لاحظت أيضا أخلاقيات في قيادة السيارات والتزام بقواعد المرور وأنه بمجرد أن تلمس قدم الماشي نهر الطريق تتوقف السيارات للسماح له بالعبور ، ولاحظت  في كثير من الأحيان أن المحلات تترك بدون حراسة لحين الذهاب لتناول الغذاء وذلك دون خوف من اللصوص رغم أن السارق لا يعاقب بقسوة كما في السعودية

** والعجيب أنني لم أجد المصريين يتنزهون في هذه الحديقة  كنت أجدهم فقط يقومون بالتصوير وبيع المأكولات والمشروبات

** وكان الكثير من المصريين لا يعرف مكانها رغم أنها في قلب بغداد

(( لم اصارح المصريين بتنزهاتي في بغداد ))

** كنت أخجل من التصريح امام زملائي المصريين بأنني ذهبت الى حديقة الحيوانات حتى لا أسمع منهم عبارات السخرية  فأنا مازلت في بداية السفر وأفكر في الحدائق والمتاحف والمتنزهات

** في هذه الفترة كان لي صديق مصري شعرت بوفائه واهتمامه بأحوالي وأعجبني  حرصه على الدراسة المنزلية  للثانوية العامة بالعراق الى جانب عمله أعجبني قلة اختلاطه  بالمجموعة المرافقة ، اتخته صديقا لبضعة أيام وكنت أذهب معه للتجول أو للسينما

** عندما شعرت بنوع من الاستقرار عند سكني بالغرفة رقم 1 حاولت أن اكتب مذكراتي  التي كنت أخاف عليها من النسيان ، ولكني لم أستطع كتابة سطرين  ثم مزقت الورقة لأنني وحدت الاحداث متلاحقة وتجري بسرعة اكثر من سرعة الأقلام وخاصة لأنني في هذه الفترة كنت في مرحلة عدم الاستقرار النفسي

(( حالات نفسية متعددة خلال اليوم الواحد ))

** كان اليوم الواحد يمر وكأنه عدة أيام بمحتلف الأحاسيس والحالات النفسية المتعددة فتارة أكون مبتهجا وتارة قلقا وتارة حزينا وتارة يائسا

** في هذه الفترة  رغم انشغالي في العمل طوال اليوم  إلا أنني في أوقات الراحة انزل واتجول في الشارع بمفردي مستعينا  بالخريطة  التي عرفت منها وجود المتحف الحراقي فأحاول أن ادخله أجد

هم يقولون انه مغلق لظروف الحرب  فأتجه سائرا في الطريق كما لو كنت في شوارع القاهرة او الاسكندرية  فالشوراع في ازدحامها بالناس والسيارات ليست غريبة فهي تذكرني ببلدي وتجعلني افقد قدرا من الاحساس بالغربة

فها هي الاسواق القديمة والتي باع فيها التوابل والبخور  والصناعات الشعبية  والأحياء القديمة التي تشبه كوم الدكة في الاسكندرية ، ولاحظت عاملا مشتركا بين المباني الشعبية فكلها تحمل طرازا شرقيا  له قواعد ثابتة

(( وحدات زخرفية ))

ومن الملامح الشرقية الوحدات الزخرفية المتكررة التي توجد في البيوت وفي السيارات والتي تتدلى منها الشراسيب التي تذكرني بالشراشيب المتدلية من الجمال

** في البداية عندما كنت أجد العربات الكارو مزخرفة بالقطع الملونة والفوسفورية وعلى الحمار أيضا توجد الأربطة الملونة بألوان زاهية كنت أعتقد أن ذلك ليس إلا نوع من الزخرفة ولكني اكتشفت بعد ذلك أن المغالاة في الزخرفة لها أهمية وظيفية لحماية العربة من التصادم وقد تأكد لي ذلك من بعض المحادثات ومشاهدتي أيضا لشخص يقود عجلة ويربط في كلتا ساقيه رباط  بلاستيك عاكس ، كما أن أحد الفلاحين فيما بعد عندما سألته عن سبب دهان العصا فقال لي علشان الكلاب تشوفها بالليل وتخاف منها .

** وقد تكون هذه الملاحظات دليلا على اهتمام زائد بالأهمية الوظيفية .

 (( التوجه الى المتحف البغدادي ))

** أذهب الى المتحف البغدادي في قلب بغداد بجوار أحد الاسواق العتيقة المظللة الموازية للنهر وأجد فيه تماثيل الشمع توضح حياة البغداديين في الماضي القريب  وفي الاحياء الشعبية التي مازالت موجودة  ومع هذه التماثيل توجد تسجيلات صوتية مصاحبة للتماثيل التي توضح حياة العراقيين في البيت وفي مناسباتهم مثل حفلات الزواج  والمآتم والمقهى والتخت والباعة المتجولين وبائع العرقسوس وبائع اللبان وأصحاب الحرف

                                                                      (( الاصول متشابهة ))                  

** بزيارة هذا المتحف خرجت ببعض النتائج والتساؤلات ، أن أصولهم مشابهة تماما لأصولنا كما لوكنت أشاهد منزل جدتي وبالتأكيد جميع الدول العربية من الخليج الى المحيط ، وأن القومية العربية حقيقة لا يمكن تجاهلها وأن محاولة الخروج عن هذه القومية التي تسري في الدماء ليست إلا نوع من العبث والحماقة ، وأن التخبط الذي يعاني منه المصريين وغيرهم قد يكون سببه محاولة التقلد بالآخرين

(( التعرف على عادل بطرس ))

** في أواخر فترة عملي بشركة البسكويت وفي أحد أيام الأجازات عصرا بعدما صحوت من النوم وجدت شخصا جديدا جاء ليسكن بالغرفة رقم 1  وسيم المنظر يرتدي ملابس جيدة ، وكأن له مركز مرموق ، اعتقدت انه عراقي جاء ليبيت في هذه الليلة ، بدأت الحديث معه كضيف جديد علينا عرفت أنه مصري اسمه عادل بطرس كان يعمل محاسبا في مصر وقال أنه يسكن في الاسكندرية في كامب شيزار  وهو من أصل صعيدي وعاش طفولته في الاسماعيلية وهو لم يتزوج بعد رغم أنه لديه كل الامكانيات سيارة وشقة ( على حد قوله ) واستطاع هذا الشخص أن يلقى تقديرا من مسجل الفندق فيدخله على غرفة رقم 1 مباشرة وأوصى أحد العمال أن يبدل له فلوس عراقية .

وعرفته على نفسي ووجدته في البداية متحفظا مني ، وبعد ذلك زال التحفظ وأصبحنا كالاصدقاء وقال لي أنه قضى فترة سعيدة في العمل بجنوب السودان وأنه حضر الى العراق لكي يجرب حظه ولكنه يشك في انه يستطيع أن يجد فرصة عمل مناسبة له ، وطلب مني ذات يوم الذهاب معه الى شخص تعرف عليه في الطريق واقترض منه مبلغا ويخشى ألا يستطيع أن يحصل على هذا الشخص ، لم أذهب معه لأن صلتي به لم تكن وطيدة إلا في الأحاديث والتسامر معه بعد العودة من العمل ، ولكن مع تطور الرابطة ذهبت معه للبحث عن العمل في شركة سياحة ، واقترحت عليه ان يذهب الى احدى الكنائس لكي يساعدوه وفعلا ذهب الى كنيسة في شارع الجمهورية وأخبرني أنه لم يخرج منهم بفائدة لأن الكنيسة أرمينية لا يتحدثون العربية  .

ساعدته ببعض النصائح عندما كان يشكو لي من تخاذل بعض المصريين معه

وزادت الصلة والصداقة الظاهرة بيننا في الفندق وأصبحنا مثل الصفوة في الفندق علاء وعادل

(( خبر اغتيال السادات ))

** حدث ذات يوم وبعد رجوعي من العمل أن استمعت الى اغنية لأم كلثوم وشعرت بقمة السعادة لأنني منذ فترة لم  استمع الى مثل هذا الطرب ،   لدرجة أنني خفت أن تنقلب هذه السعادة الى عكسها كما كانت تحدث التقلبات في هذه الفترة .

وبعد ذلك سمعت خبر يسري بين رواد الفندق بأن السادات قد مات مقتولا ، حزنت لهذا الحدث وخفت على مستقبل مصر فقد كان قائدا للحرب ، ويسعى الى السلام  ، فقد يأتي الى مصر شخص متهور يغرق البلاد في دوامات الحروب  وربما يحدث تدخل أجنبي ، ربما تحدث حرب أهلية بين عدة طوائف  وربما تتدخل اسرائيل وتنقض عهدها بالانسحاب الكامل من سيناء

** ازداد حزني عندما وجدت أحد الفلسطينيين أو العراقيين يظهرون فرحا لموت السادات ، لكنني لاحظت أن الذي يظهر فرحا غالبا ما يكون بمستوى ثقافي متدني وواقع تحت تأثير خارجي ، أما المثقفين فكان منهم ما يؤيد السادات ولكنهم كانوا يخفون هذا التأييد خوفا من النظام الحاكم

** في هذه الليلة 6 أكتوبر  استمعنا الى طلقات نارية كثيرة واعتقدنا ان هذه الطلقات لها علاقة بالحرب مع ايران ، واكتشفنا ان هذه الطلقات كانت فرحا بموت السادات

** تبدلت المتعة التي شعرت بها عند سماع أم كلثوم  بخوف وقلق شديد عند سماع هذا الخبر

** كان الاستاذ عادل يظهر شعورا مثل معظم المصريين وسمعته يرفض الحلوى التي يوزعها  الشخص الفلسطيني  بمناسبة موت السادات

(( رسالة مؤثرة ))

** أستمر في انتظار الرسائل من الأسرة على هذا الفندق فتصل رسالة  وتتابع رسائل اخرى  اتذكر من كلماتها  أن أختي عبير كانت تقول لي مامعناه انها اعتقدت أنني عندما نزلت من البيت انني كنت نازل اجيب حاجة وراجع  ولكن مرت الأيام  ولا أراك ولا أسمع صوتك ، وفي رسالة أخرى تقول لي ( عندما اجد الجيتار صامتا اقول في عقلي اين علاء لكي يعزف على الجيتار ) عندما كنت اقرأ هذه الكلمات أشعر بألم شديد في نفسي وأن الدموع تغرق عيني

( أختي عبير كما رسمتها في فترة الكلية )

**وكنت أحكي للاستاذ عادل بطرس هذه المشاعر  وكنت سعيدا  بأن أجد من يسمعني  ويبادلني الحديث ، و كنت مهتما بحاله وكنت أحترم سنه الكبير واتمنى له وظيفة تناسبه

** كانت الرسائل تطمئنني على الأسرة  لكنها كانت توقذ مشاعرا ترفع من درجة توتري وشوقي الى أهلي

(( أحلام مزعجة ))

** أتذكر أن أحلاما مزعجة كانت تأتي في منامي في هذه الفترة ومنها انني رجعت الى مصر بعد الفشل ، وانني أرغب في العودة مرة ثانية الى العراق ، وكنت ألاحظ أن الأحلام كانت دائما بالبيت القديم وليس الجديد بمحطة الرمل .

** بعد تركي مصنع البسكويت بعد 25 يوم من العمل وبعد 35 يوم من حضوري الى العراق  وعندما استلمت جواز السفر الذي كنت قلقا عليه  لحجزه بالشركة ، وبعد أن استلمت بعضا من المال لكي يعوصني ما صرفته في الأيام السابقة شعرت بهدوء نسبي وأمل من جديد في الحصول على عمل آخر  وبدأت أبحث مرة أخرى بشيئ من الاطمئنان وبدأت أدمج البحث عن العمل ببرامج سياحية أعددتها من خلال الخرائط التي حصلت عليها ، فتجولت في معظم أنحاء بغداد أثناء البحث عن العمل وخلال هذا البحث كنت أذهب الى الاسواق التي أحببتها في بغداد والى السينما أحيانا  وسوق الصفافير  الذي تصنع فيه المشغولات النحاسية  وصانعي الجلود

** ثم ذهبت الى قاعة لعرض الفنون التشكيلية ومن طمعي أيضا أنني بحثت عن عمل في هذا المكان

** ثم أذهب الى شارع السعدون وهو شارع راقي به محلات حديثة ودور سينما  ثم شارع ابو نواس  والجلوس بالحدائق  المجاورة لنهر دحلة

-** أشاهد أحد الطلبة العراقيين بالاوتوبيس يمسك بآلة موسيقية  اتناقش معه في الموسيقى أجده يتحدث بكل اتزان وفي حدود معرفته ولا يبالغ بعبارات انفعالية ولم ألاحظ ثرثرة في الأحاديث كما عهدت من الشباب في مصر عندما يجتمعون في الأماكن العامة

** ادخل الى معرض الرشيد ( الأرصدي ) وقسم الآلات الموسيقية واتناقش مع البائعة واشتريت آلة ضبط للجيتار واشتريت فلاوت

** وكثيرا ما كنت ألاحظ مجموعة من الشباب يسيرون معا ولا يتحدثون معا وكل في حاله

وفي أحد المرات لاحظت صوت نسائي  عالي في الاوتوبيس ، وعندما التفت وجدتهما سيدتان من مصر

(( كربلاء ))

** ومن المناطق التي وضعتها في برنامجي السياحي كربلاء التي تبعد عن بغداد وهناك لاحظت أن البيوت أكثر قدما من بغداد  وبهاا الكثير من عربات الكاو والأسواق الشعبية وشد انتباهي أن سيدة كانت تجلس وحقائبها في أحد العربات اليدويه ويجرها أحد الشيالين

** وجدت هناك مسجدي العباس والحسين وألاحظ لأول مرة المذهب الشيعي في طريقة الآذان والصلاة

ومن كربلاء اتجهت الى أطراف المدينة حيث البيوت الريفية التي تشبه الريف المصري حيث يخزن القش فوثق المنازل لاستعماله وقودا وأقراص الجلة وجدتها مرصصة وليست مبعثرة كما كنت أشاهدها في مصر .

** في كربلاء زرت مسجدي العباس والحسين ولاحظت تميزا  في هذه المساجد في الشكل حيث يوجد اهتمام كبير بقطع الكريستال في النجف والاباليك حتى يبدو الداخل كأنه دخل الى جوهرة

** ومن مدينة كربلاء عرفت ان قبر الامام علي يوجد في مدينة النجف التي تبعد كثيرا عن كربلاء

** حين ذلك وضعت النجف في برنامجي السياحي، ولكن قبل ذهابي الى النجف بحثت في الخريطة فوجدت أنه من الافضل الذهاب الى مدينة بابل حيث المتحف البابلي ومنها أذهب الى النجف

(( مدينة بابل ))

** ذهبت الى مدينة بابل بعد عناء شديد من انتظار المواصلات وبصعوبة استطعت الوصول الى المتحف البابلي الذي يبعد كثيرا عن  المدينة والمقام في منطقة مدينة  بابل القديمة حيث توجدآثار من هذه المدينة وهي بيوت صغيرة  وشوارع ضيقة كانت هذه المدينة أهم ما يحتويه المكتحف من آثار الى والى جانب ذلك تماثيل ترجع الى العصر البابلي والعصور الأخرى القديمة جدال ، ومن أهم ما يحتويه المتحف أيضا الكتابة المسمارية التي أجمع الكثيرين من علماء الآثار على أنها أقدم كتابة استخدمها الانسان كما سمعت أيضا من خلال المتحف أن حمورابي كان أول من اهتم بوضع القوانين  والتشريعات الحكومية

(( الذهاب الى النجف ))

** ومن مدينة بابل أذهب الى النجف  بعد عناء أيضا من صعوبة المواصلات وهناك أجد مدافن العراقيين الشيعة حيث أن جميع الشيعة – تقريبا -  يدفنون موتاهم في مدينة النجف مما يجعل هذه المحافظة مزدحمة بأحيائها وأمواتها

** ذهبت الى مسجد الامام علي وهو مسجد كبير أمامه ساحة واسعة ينتشر فيها الحمام البري االذي يطير فوق رؤوس المتعبدين

** وفي مدينة النجف قابلت أحد أصدقاء الكلية حيث يعمل في مطعم وكان من الطبيعي أن أسأله عن فرص عمل ولكن بدون جدية لأن المكان والازدحام لم يكن محببا لي وسألته عن مكان حجز السيارات المتجهة الى بغداد  لكي أرجع الى فندقي ( زين القوس ) الذي فارقته عدة أيام  وفي الطريق كنت أتفحص الخريطة التي أحتفظ بها في حقيبتي ( السمسونايت ) التي كنت أحمل فيها اهم احتياجاتي ، لاحظت أن العراق بها مصايف بالشمال في الموصل واربيل ،

(( بدء صدور قرار التعيين مدرس محاضر بالأجر ))

** استهوتني فكرة الذهاب الى اربيل حيث علمت أنها منطقة عراقية كردية يختلف أهلها كثيرا عن العراقيين العرب ولكنني أجلت هذه الفكرة  عندما عدت الى بغداد وعلمت أن قرار التعيين بوزارة التربية قد صدر ، وذهبت لاجراء الكشف الطبي والشخصي واستلمت الأمر الوزاري بتعييني محاضر ( مدرس بالحصة ) في كربلاء لمادة علوم حياة ( الاحياء )  فرحت كثيرا وخاصة لأنني أعرف مدينة كربلاء وأعجبتني هذه المدينة أكثر من اعجابي بمدينة النجف ، توجهت الى المديرية بكربلاء فأخبروني بالحضور بعد عيد الاضحى ، شعرت بالاطمئنان وبدأت أضع خطة جديدة للاستمتاع  بالعيد

** وفي هذه الفترة كان أحد الاشخاص عائدا للاسكندرية أرسلت معه شريطا مسجلا الى الاسرة أخبرهم بسعادتي  للتوفيق في الحصول على عمل مدرس ، وعرفت بعد ذلك أن أمي فرحت كثيرا لهذا الخبر لأنها كانت تعاني من تخويف الكثيرين لها  من الأحوال في العراق ، بدأت أمي ترسل الي النصائح التي تهمني كمدرس ، وارتحت كثيرا عندما شعرت بارتياح اسرتي في مصر ، كان لا يهمني  أي متاعب أمر بها بقدر ما يهمني راحة اسرتي لأن المتاعب أنا اعرف قدرها واستطيع أن أواجهها . أما الاسرة فإنهم بمجرد أن يعلموا بمشكلة ما  لن يستطيعوا تقديرها  وسوف تتوالى عليهم الوساوس والتوقعات بما يسبب لهم القلق الشديد .

** أجلت فكرة السفر الى الشمال الى أجازة نصف العام  وفضلت ألا أبتعد كثيرا عن بغداد وفضلت  أن استمتع بالعيد فيها .

(( افطار العيد الكبير))

** في اليوم الأول من العيد ذهبت لتناول الافطار في مطعم يقدم وجبة لحم رأس بالشوربة بالخبز ، لم تعجبني هذه الوجبة عندما شاهدت الاسنان تقدم مع عظام الفك في الطبق ، وتمنيت لوكان اللحم يقدم بدون العظام ، المهم أنني أكلت ولكن بدون شهية .

** ثم ذهبت في هذه المرة للمتحف البغدادي الذي زرته أكثر من مرة ولكن في هذه المرة لم يكن مقصدي أن اشاهد التماثيل ولكنني كنت أسعى لمشاهدة جمهور المشاهدين العراقيين عن قرب بأطفالهم وشبابهم وشيوخهم في هذه المناسبة .

** وكانت الملاحظة الأولى قلة الزوار المصريين ، والثانية والهامة أن قليلا جدا ما رأيت مجموعة من الأطفال يتنزهون بمفردهم في المتحف أو خارج المتحف  فقد كان جميع الأطفال – تقريبا - يتحركون في العيد مع أسرهم

** وعندما ذهبت الى حديقة الحيوان لاحظت نفس الملاحظة فالزيارات كلها عائلية ، وكانت صورة حديقة حيوان الاسكندرية في الأعياد تلازمني حيث الازدحام الكبير الذي يجعل الزائر لا يرى قدميه وحيث الفوضى الكبيرة في التعامل بين الناس وبعضهم والمشاجرات الكثيرة والضوضاء التي لا تحتمل . وتسكع الاطفال في الشوارع

** ركبت قطار بالحديقة خاص بالاطفال دون حرج من أجل الاستمتاع بوقت جميل ، وعندما حاولت مداعبة طفل مع أبويه قال أبوه بصوت خافت ربما يكون هذا الطفل يشبه ابنك قلت له نعم

** وأثناء السير أيضا في الشوارع كنت ألاحظ الزينة المستخدمة في حفلات الزفاف وغيرها قليلة غير مبالغ فيها والمسافة بين اللمبة والأخرى حوالي متر كما لوكان الغرض من الزينة هو الاعلان فقط  ،  وأصوات الميكرفونات تكاد لا تسمع .

** ومما سمعته من من احد العراقيين عن المصريين أنهم يتحدثون بكل صوتهم ، وياريت يوفروا صوتهم شوية .

** تعجبت للحكايات المغلوطة التي يروجها كثير من المصريين والتي تشوه صورة العراقيين ، رغم أنني شاهدت وتأكدت بعكس هذه الصورة ، ولم يكن هذا التأكد بناء على تحيز أو تعميم  ولكن بناء على حسابات وأرقام ، فلو أحصيت حالات السرقة التي شاهدتها لكان أكثرها من المصريين ، وكذلك حالات الكذب والنصب والنفاق وغيرها وحتى الشذوذ الجنسي كأن أكثره من المصريين .

(( اندفاع السائقين ))

** كثيرا ما كان ترد الى أذني عبارات  تجعلني أخجل من سلوك المصريين في الغربة منها أن الكمساري المصري لم يعطي لها باقي الفلوس ، وأنه عندما دخل أحد السائقين المحطة بكل اندفاع حتى هرول الواقفين بسرعة شديدة لكي يتفادوا يرعته ، كان التعليق كلمة بسيطة : أنه مصري ، أي أن هذا الفعل لم يعتادوه الا من مصري

** أفكر جيدا وأتساءل اننا في مصر نبرر السلوكيات الخاطئة بسوء الحالة الاقتصادية

** انتهت أيام عيد الاضحى وكانت اياما سعيدة  قضيتها بين  الرحلات الفردية  وزيارات الاصدقاء  وكان من الطبيعي  ان تنقلب هذه السعادة كما تعودت من سرعة الايقاعات  النفسية .

فعندما ذهبنا الى المديرية بكربلاء قالوا لنا أنهم غير محتاجين لمحاضرين ولكن بعد مشاورات واجتماعات تم توزيعي على مدرسة المكاسب المتوسطة للبنين وعندما ذهبت اليها مع اثنين من الزملاء المصريين استقبلنا مديرها استقبالا جيد ووعدنا  باليوم التالي لتوزيع الحصص الشاغرة ، وأعطى لكل منا 22 حصة اسبوعيا أي 22 دينار اسبوعيا وكان هذا المبلغ غير مشجع وغير ثابت حيث لا تحسب لنا ايام الاجازات ، لكننا قبلنا العمل لحين تعاقدنا كمدرسين بمرتب ثابت بعد اصدار الأمر الوزاري بذلك

** بعد استلامي لهذا العمل بدأت أفكر في الحصول على سكن ارتاح فيه وذهبت مع مجموعة من الزملاء الى فندق الرسول الذي يواجه مسجد العباس في كربلاء ، ولحسن الحظ  استطاع عامل الفندق أن يوفر نا أماكنا في غرفتين احداهما 4 افراد والأخرى فردين ، قبلت بالغرفة ذات الفردين لحين اختيار صديق مناسب للسكن معي

** فتذكرت زميلا لنا كنت أراه دائما بالمديرية وهو هادئ الطباع اسمه داود  جرجس  سألته عن مدرسته عرفت انها مدرسة فلسطين  ذهبت اليه في المدرسة لكي أدعوه للسكن وجدته يقول أنه استطاع أن يجد سكنا أحسن وأرخص مع أحد الزملاء  وعرض علي أن أسكن معهما ... قبلت هذا العرض لأنني عانيت في الليللة السابقة  من أحاديث لم انسجم معها من هؤلاء الذين يسكنون معي حيث كان أحدهم يتحدث عن نفسه وقدراته الفذة بمبالغة شديدة  .

** عندما ذهبت الى الفندق الجديد مع داود جرجس وجدت أن الغرفة جيدة تحتوي على ثلاثة أماكن  وعندما جاء لنا شخص رابع أستأجرنا غرفة أخرى تسع أربعة اشخاص

** وكانت هذه الغرفة أحسن ما في الفندق فقد كانت مخصصة للعائلات التي تأتي لزيارة مسجد الحسين والعباس ، بدانا نمارس حياة جديدة مستقرة وكنا راضين رغم الأجر البسيط  .

** عشنا في البداية في تعاون واخلاص  وكان صاحب الفندق يسمح لأبنه الصغير ان يشتري لنا مانحتاجه من أشياء مثل الكبريت والجاز  رغم أن استعمال الموقد كان ممنوعا في الفندق

** وفي هذه الفترة اتفقنا على نظام جماعي للأكل كان من المفروض فيه الالتزام بتقسيم العمل فيما بيننا ، لكن ما حدث أن العبء أصبح علينا أنا ودواد ، قبلنا هذا الوضع ولكن لاحظنا أن أحدهم يدخن كثيرا ولا يفرغ طفايته من السجائر  ولا يغسل كوب الشاي ويعزم أصحابه على الشاي بغرفته ، أعطيناه تنبيها خفيفا لضرورة مشاركته في اعداد الطعام وتنظيف الغرفة ، ورغم التنبيه الخفيف إلا أنه خاصمني وكان داود بدبلوماسيته يصالح بيننا .

** تتحسن العلاقات  كثيرا ويتعامل كل منا مع الآخر بشفافية الى حد كبير ، أما الشخص الرابع  فقد كان لا يمكث كثيرا معنا لأنه كان يعمل بالتجارة وكان دائم الذهاب الى بغداد وكان كمثل الضيف معنا لا نشركه في عمل الطعام والاعمال الأخرى

** في هذه الفترة كنت اذهب اسبوعيا الى بغداد لأفضي هناك يومي الخميس والجمعة  للتنزه  وتغيير جو ، وسمعت من أحد الزملاء يقول لي  لا تتحرك كثيرا حتى توفر فلوسك  لماذا تذهب الى بغداد ، هل انت متزوج في بغداد ؟

** في الحقيقة أنني كنت أذهب الى بغداد كثيرا لأنني بطبيعتي اشعر بالحنين الى المكان والى الصحبة ايضا فقد كان بفندق زين القوس مصباح وهو شخص مكافح يتعلم ويدرس في نفس الوقت والاستاذ عادل بطرس وهو شخص متعلم يهتم بمصاحبتي وعلمت منه أنه استطاع أن يحصل على عمل بوظيفة محاسب  في شركة سياحة ( عبر العالم ) ويعرض علي مبلغا للمساعدة لحين صرف المستحقات فارفض وازداد اطمئنانا اليه  وأطلب منه تليفون شركة السياحة فيعطيه لي  ويطلب مني أن أتصل به في أي وقت ، وكان يقول لي أن عمله بالشركة بسيط ولا يستدعي البقاء كثيرا في الشركة

** ومما كان يشجعني على الذهاب الى بغداد ايضا صلتي بمسجلين الفندق  وكانوا دائما يسألوني عن حالي في كربلاء ويوجهون لي النصح بكل اهتمام ومن العاملين بالفندق كان ابو عمار الذي يسكن مدينة الكوت وعندما علم انني خريج كلية زراعة حكى لي حكاية طريفة مع عمال صعايدة اشتغلوا عنده في جمع الرمان فكانوا يتعاملون مع الرمان كما لوكان طوب .

** كان هذا العامل يتكلم بطلاقة باللهجة المصرية حتى قلت له أكيد رحت مصر فقال لي لا ، بل لأنني تعاملت مع كثير من المصريين

** وفي أحد الأيام عندما واثناء اذاعة الاغاني الوطنية بكثرة في التليفزيون أغلقه وقال اننا وصلنا لحالة تشبع ووصف لي حالة التشبع علميا بتشبع المحلول السكري ، اندهشت لهذا الوصف وخاصة عندما يكون من أحد العمال القائمين على النظافة بالفندق .

** وذات يوم في طريق العودة الى كربلاء تتعطل المواصلات فاضطر للمبيت في فندق بمدينة المسيب على نهر الفرات واتذكر ترحيب صاحب الفندق بي أنا وزميلي وويفتح لنا قلبه بالاحاديث عن الحرب التي ارغمهم صدام عليها وكان في هذا الحديث دلالة أخرى على الكبت الذين كانوا يعيشون فيه .

** نرجع الى كربلاء حيث الفندق الذي نسكن فيه مع الزملاء المصريين وتستمر الأحوال بين صلح وخصام وكنت حريص على ضبط انفعالاتي ، ووصل الأمر الى أن اعتذرت له يوما عن ذنب لم أرتكبه لمجرد أنني عرفت أنه معقد لعدة أسباب منها شكله وسنه الكبير  وديونه التي تزداد يوما بعد يوم

** تحملت منه الكثير وصدمت منه أنه أثناء تواجد ضيوف علينا وجدته يعايرني أمامهم بأنني ذكرت له يوما أن طفولتي لم تكن سعيدة واننا تربينا على الكبت وما شابه ذلك ، كمأ أنه ذكر لهم أنني قلت أتمنى ألا يأتي ضيوفا ، عند ذلك ثرت أمامهم وقلت لجميع الحاضرين ما معناه أننا لسنا في مصر حتى يكون بيننا ضيوفا أو غير ضيوف ، أن علاقاتنا جميعا تحكمها العمل والمصلحة وأن أحاديثكم ومجاملاتكم كلها كاذبة .

** قلت ذلك ثم توجهت الى سريري  وقلت لهم اريد أن أنام لأني تعبان اليوم ، شعرت في ذلك اليوم أنه لا أمل في التصالح مع هذا الشخص ، ثم قبلت الصلح مرة أخرى وأخيرة لأنني عرفت خبر يقول أننا سوف ننتقل الى محافظة أخرى لأن محافظة كربلاء غير محتاجة لمحاضرين  مصريين لأن المدرسين العراقيين قد عادوا من جبهة القتال  ولم يعد هناك شاغرا من الحصص .

** حدث ذلك وأصدرت المديرية امرا اداريا بتحويلنا الى الوزارة لكي تقوم الوزارة  بتوزيعنا الى محافظة أخرى بها الشاغر من الحصص كما سيأتي الذكر فيما بعد

** وكان هذا الخبر كبيرا في نفوسنا فجعل القلق يأتي مرة أخرى في صدورنا بعدما كدنا نرضى على هذا الوضع حتى ولو استمر عاما

** أما وعن فنيات العمل بكربلاء بمدرسة المكاسب المتوسطة ( الاعدادية ) للبنين فقد وضعت خطة لمواجهة الطلاب في أول يوم تدريس في حياتي ، وكانت الخطة تبدأ بالصمت وعدم التحدث للطلاب إلا بعد فترة صمت قد تجعلهم يشعرون برهبة ويكونوا أكثر انضباطا

** اكتسبت خبرة عملية في التدريس ووجدت نفسي أتطور كثيرا عن طريق الخطأ ومحاولات اصلاحه ، ولاحظت أن الطلاب يمكن تخويفهم بالضرب البسيط والدرجات وأن تمردهم اقل كثيرا من التمرد الذي اعتدت عليه من الطلاب في مصر الذين لا يعبأون بالضرب والتهديد.

** حرصت على أن يكون كلامي بلغة مفهومة لديهم فلا  استعمل اللغة المصرية الشعبية حتى يفهمونني جيد ولا استعمل العربي الفصحى ايضا .

** حضر المفتش العراقي ذات مرة في آخر الفصل ، يراقبني في طريقة الشرح  وبعد نهاية الحصة وفي حجرة المدير كتب في سجل التوجيهات  تقريرا مكون من صفحتين  يحتوي على الأخطاء التي لاحظها ومنها عدم اشراك كل التلاميذ في المناقشة ، عدم تنظيم وتوضيح الكتابة على السبورة ، وعدم التحدث باللغة العربية ، وقال لي عليك أن تفتح صفحة كذا في كتاب كذا وصفحة كذا وسطر كذا لكي تتعرف على وظيفة هرمون الثيروكسين .

وأضاف هذا المفتش ان هذه الاخطاء عادية ويمكن تلافيها بسهولة

** يوم آخر يدعو هذا المفتش جميع مدرسي العلوم بالمدينة لاجتماع من أجل تدريب المدرسين الجدد وفي هذا الاجتماع اوصانا لأهمية عدم ارتداء الألوان الزاهية وضرورة الاهتمام  بتنسيق السبورة والدواليب أيضا .

(( استلام العهدة بالمدرسة ))

** لم يكن بالمدرسة امين معمل وطلبوا مني  استلام عهدة المعمل فوجدتها كثيرة ومتنوعة وتشمل أجهزة وأدوات  لم اعتادها حتى في كلية الزراعة بالاسكندرية ، وبالاطلاع على كشف العهدة وجدتها مكتوبة باللغة الانجليزية فأسرعت لشراء قاموس استعين به في استلام العهدة

(( يوم عاشوراء ))

** في هذا الشهر الذي قضيته في محافظة كربلاء حدثت مناسبة يوم عاشوراء  وكان لي الحظ الكبير  أن أكون موجودا  في المدينة التي تقام بها  الاحتفالات الخاصة  بالمسلمين الشيعة من جميع أنحاء العراق ومن دول أخرى ايضا حيث يزورون قبر الحسين ويمارسون الشعائر الخاصة بهم

** وفي هذا اليوم تكرس الدولة اهتمامتها كلها بهذه المناسبة  التي تشبه الحج فتخصص  جميع وسائل المواصلات لنقل  الناس الى كربلاء مجانا ... ولا يجوز في هذا اليوم البيع ، وعلى المحلات المفتوحة أن تقدم خدماتها مجانا ( على روح الحسين )

** وفي الليلة السابقة ليوم عاشورا ء كانت الشوارع مكتظة بالناس النائمين على الأرصفة استعدادا لليوم التالي حيث تبدأ طقوسهم الدينية وهي المشي جماعات في الشوارع مثل أمواج البحر يلطمون على صدورهم وخدودهم حزنا على مقتل الحسين كما لو كان الحسين قد مات في تلك الايام 

** دفعني الفضول الى المشي مع هذه الأفواج حتى دخلت مسجد الحسين وقمت بالطواف حول مدفنه بداخل المسجد وقرأت له سورة الفاتحة ... ورأيت في ذلك اليوم بعض الناس يقومون بالحركات الغريبة تعبيرا عن حزنهم أو تباركهم بهذا المكان الطاهر كما يحدث في زيارة بعض المساجد في مصر

أذكر أنني في ذلك اليوم لاحظني أحد الطلاب بالمدرسة ويبدو أنه اعتقد أنني من أهل الشيعة مثلهم .

** وفي هذه الفترة تكونت علاقات جيدة مع بعض المدرسين  العراقيين  الذين منهم مدرس عربي ضرير له شخصية قوية بداخل الفصل وكان الطلاب يحترمونه  ويخافون منه طول الحصة لأنه كان يقوم بمعاقبة  الطالب المشاكس بضربه على يديه بدلا من ارساله للمدير كي يعاقبه كما يحدث مع بعض المدرسين

** كان هذا المدرس الضرير يتحدث معي دائما عن رغبته في زيارة مصر مدينة الألف مأذنة ... وكان دائما يسألني عن أسعار السفر بالطائرة أو الباخرة ما كان يسألني عن أقل تكلفة اجمالية يمكن أن يتكلفها عندما يقضي بعض الأيام في مصر

** كان هذا المدرس يطلب مني أحيانا أو أقول له نكتة مصرية حيث أنه كان مقتنعا أن المصريين لهم القدرة الفائقة على تأليف النكات

** رغم المعاناة التي عانيتها في مدينة كربلاء من عدم الاستقرار المكاني والنفسي  ومن التعامل مع كثير من الزملاء المصريين الذين كانوا مجردين من القيم والمعاني التي كانوا يتحدثون عنها ليلا ونهارا

** ورغم المعاناة من عدم وجود وسائل الترفيه والراحة اللازمة  وعدم وجود الرفيق أو الصديق الذي يستطيع أن يفهمني ويخفف عني متاعبي ، رغم كل ذلك فإنني في لحظاتي مع نفسي  والتي أجرد نفسي فيها من كل تحيز  استطعت أن أقرأ من هذه المدينة كربلاء صفحات صادقة من تاريخ العراق وتاريخ الدولة الاسلامية القديمة  وذلك من خلال المباني العتيقة والأسواق الشعبية والباعة المتجولين  والعادات العربية  المحمودة  و الأصالة النادرة الصامدة عبر عشرات القرون

** كان لي قدرة لا بأس بها على الموضوعية وعدم التحيز في الحكم على الأمور المختلفة فعندما اقارن بين مصري وعراقي في تصرف ما لابد ان اضع في اعتباري ثقافة كل منهما والمستوى التعليمي ، وعلى سبيل المثال لايمكن ان أقارن بين عراقي ريفي إلا بمصري ريفي  كما لا يمكن المقارنة بين سلوك عراقي عربجي بسلوك مصري متعلم ، وأن الخلط في الحكم ليس من سمات العقل .

** واتذكر في هذا الشأن أن قال لي أحد العراقيين ما معناه عجبا لكم يامصريين تقولون دائما انتوا ، احنا ، كلنا ، كلكم – اعتبرت أن هذا الرأي على حق لأنني عانيت أيضا من ظاهرة التعميم عند الكثير من الزملاء المصريين ، فقد كانوا يتحدثون عن العراقيين وكأن رجالهم شواذ ونسائهم عاهرات وكنت اعتبر هذا التعميم ليس إلا عيبا واضطرابا في طريقة التفكير ، وكنت أعتبر أن هذا الاضطراب في التفكير أصبح هو أكثر العيوب الظاهرة عند كثير من المصريين ( لا أقول جميعهم حتى لا أقع في نفس خطأهم وهو التعميم )

** ومما أذكره في هذه الأيام أن صديقي داود قال لي : " عندما أمشي في الشارع اجد كل شيء وحش حتى الشجر وحش ولونه وحش " ظلت هذه العبارة في ذاكرتي لأنها كانت لها التأثير الكبير لأنها جعلتني أشعر بأنني في سجن كبير ، ليس سجن مكاني ولكن سجن فكري

** أعجبتني هذا العبارة من صديقي داود لأنني وجدتها عبارة غير تقليدية تتضمن أحاسيس خاصة  دلت على أنه غير متأثر بالاقوال النمطية التي تتكرر من الزملاء .

** في مدينة كربلاء لاحظت أن بها طابع مميز وهو طابع ديني نتيجة توسط مسجدي الحسين والعباس بها.

(( العودة الى بغداد ))

** انتهت ايامي في كربلاء ورجعت الى  الوزارة في بغداد لكي يتم فيها توزيعي على محافظة أخرى ، وكانت المحافظة هي ذي قار ، اخذت حقائبي مع داود  وحجزنا وقوف في القطار المتوجه الى ذي قار حيث مدينة الناصرية والتي هي مركز المحافظة  وكان القطار مزدحما  بالجنود والمدنيين  والطريق طويل واضطررنا للجلوس على أرضية القطار وكنت أنظر الى الجنود العراقيين واتذكرالجنود المصريين في مصر فأجدهم أكثر استقرارا وهدوءا رغم ظروف الحرب التي يمرون بها فلم ألاحظ أصوات عالية والـ ( الهرجلة ) التي عهدتها في مصر ، وصلنا قبل الفجر وافترشنا أرض المحطة نوما حتى الصباح وبحثنا عن مكان في فندق لم نجد حتى على الأسطح ، اضطررنا لوضع الحقائب في فندق ثم توجهنا الى المديرية  لتوزيعنا كمحاضرين في محافظة ذي قار ،

(( في المديرية بذي قار ))

** دخلنا الى معاون المدير وجدناه مبتسما يبعث الينا شيء من التفاؤل ... يطلب منا الانتظار قليلا فانتظرنا وانصرف صديقي داود لكي يستريح في أي مكان بالفندق الذي وضعنا فيه الحقائب ، وبعد فترة قصيرة من الانتظار وجهني المعاون الى موظف مصري لكي يقوم باعداد أمر اداري بتعييني محاضرا في ملحق مدرسة شهداء دير ياسين للبنات وتعيين داود في مدرسة البعث للبنين ...

** وفي لحظة كتابة الأمر الاداري كدت اتحظم نفسيا  وأغلي داخليا من تحركات هذا الموظف المصري الباردة ... فرغم شدة تعبي  وعدم نومي منذ يومين فهو أمامي يكتب كلمة من الأمر الاداري ثم ينظر بجانبه ليتحدث مع زميله أو يضحك معه ، ثم يكتب كلمة اخرى ويخرج من الغرفة ويرجع ثم يكتب كلمة اخرى فيتذكرني أنني أمامه فيسألني انتوا جايين منين ؟

وبهذا الحال تنتهي كتابة الأمر الاداري واستشهد بالله على أن الأمر الاداري تم كتابته في أكثر من ربع ساعة  وبعد ذلك تم كتابته على الآلة الكاتبة  وتوقيعه في فترة قصيرة

** نسأل عن مكان المدرستين التي توزعنا بها فنعرف أنهما بمدينة الشطرة ، نسأل عن هذه المدينة ونذهب اليها وعي على بعد 40 كيلو تقريبا شمال الناصرية ، وفي هذه المدينة لم نجد أماكن خالية في الفنادق إلا في السطح فأجلنا التفكير في المبيت الى حين ذهابنا الى المدرسة فوضعنا الحقائب في فندق صلاح الدين  وذهب داود الى مدرسته لكي يتسلم  عمله وكانت مدرسته في داخل المدينة ولم يوافق مدير المدرسة على استلام عمله لأن المدرسة بها مدرسين عراقيين لسد العجز ، ذهب داود الى المديرية فكتب له المدير العام على الأمر الاداري ما معناه "لابد وأن يستلم فورا "

(( البحث عن المدرسة ))

** أما أنا فكانت مدرستي تبعد أكثر من عشرة كيلو عن مدينة الشطرة وفي وسط العشائر ( القرى )  وعانيت من أجل الوصول اليها لأنها لم تكن معروفة لدى كثير من الناس ، وعندما اطلب من أحد الناس الاستدلال عن مدرسة شهداء دير ياسين  يوجهوني الى أحد السائقين  للذهاب الى منطقة باسم دار ياسين ، أصعد في سيارة ميكروباس عتيقة لا يوجد بها شيء سليم إلا الموتور وأجد بالسيارة عدد كبير من الريفيين الذي يلبسون العقال  والنساء الريفييات اللاتي يحملن صفائح الكيروسين  والبضائع التي يشترونها من المدينة الى بيوتهن في القرى المختلفة ، وفي هذه السيارة أسمع الرجال والنساء يتحدثون بلهجة عراقية عجيبة اتخيلها لغة غير عربية في بادئ الأمر لكن بعدما دققت السمع وجدت أنها تقرب كثيرا من اللغة العربية الفصحى  في بعض الكلمات

(( طريق ترابي متعرج ))

** تسير بي السيارة في طريق ترابي متعرج وجو ترابي أيضا يعفر الوجوه ولا نرى من السيارة إلا مساحات جرداء إلا ببعض الأعشاب الطبيعية المتناثرة وبعد أكثر من ساعة تصل السيارة الى منطقة دار ياسين وهناك لا أجد إلا مدرسة الامام الصادق أعتقدت أنها مدرستي وحتى أصل الى هذه المدرسة عبرت نهر صغير ( ترعة ) بواسطة قارب طويل بدائي الصنع لا يسع أكثر من صف واحد من 10 أشخاص تقريبا وهذا القارب مصنوع من جريد النخل وعندما ركبت هذا القارب لم أكن خائفا على نفسي بقدر ما كنت خائفا على الأوراق الرسمية التي تحتويها حقيبتي ، وصلت بسلام الى مدرسة الامام الصادق ووجدت بها مجموعة من المحاضرين المصريين  وكان معهم شخصا عراقيا  وعندما دخلت عليهم وسألتهم عن مكان مدرستي أجابني العراقي وقال لي أنا سوف أوصلك اليها لأنني ذاهب في طريقها

(( رحلة نهرية على لنش صغير  ))

** فيصطحبني هذا العراقي باللنش الصغير الذي يشيه السيارة  ويقول لي أن اسمه عبد الأمير  وهو مسئول حزبي عن هذه المنطقة كلها وان مدينته الأصلية هي النجف وأنه يعيش الآن في فندق الزهراء ، ويقول لي مازحا  ان المدرسة التي تريد الوصول اليها هي مدرسة بنات ومديرتها سمينة جدا لدرجة أنها تجلس على كرسيين  عرفت أن هذا الكلام مزاح عندما وجدت المديرة فيما بعد انها نحيفة جدا .

** استمر اللنش سائرا بنا نحن الاثنان  لمدة نصف ساعة تقريبا  قضيناها في الحديث الممتع ، ورغم شدة تعبي  وقلقي في هذا اليوم إلا أنني شعرت ببعض الراحة عند السير في الطريق المائي  وهو ترعة ضيقة مليئة بالثنيات التي لا تجعل الطريق مملا وعلى ضفاف الترعة أجد النباتات الطبيعية وأماكن يبدو أنها لم يمسها انسان وكان الجو جميلا ورطبا في هذا الطريق  ويختلف عن الطريق الترابي  المتعفر الذي أتيت فيه الى المدرسة

** بعد هذه الرحلة النهرية أغادر اللنش الى المكان  الذي أستطيع أن استقل فيه سيارة الى قرية ( آل حسن ) حيث توجد المدرسة ، وعندما وقفت في مكان السيارات وجدت شخصا ريفيا يأتي من القرية القريبة لكي ينتظر معي السيارة ... وكان الطريق ترابي لا يكاد  يصدق أي أحد أن هذا الطريق يمكن ان تمر به سيارات من شدة الهدوء والصمت واثناء فترة الانتظار تحدثت الى هذا الرجل الريفي بلغة بسيطة  وسألته عن طبيعة الزراعة عندهم فيقول لي أسماء كثيرة من المحاصيل التي يزرعونها لكن بعد لحظة صمت قليل قال لي ما معناه ان الزراعة كانت زمان أما الآن فهي لا تعطي ربحا كافيا وقال لي أن الفلاح الآن يفضل ان يتشري سيارة يعمل عليها في هذا الطريق أفضل من العمل بالزراعة ، وبعد ذلك استثرته بالكلام حتى أسمع منه رأيا موضوعيا في المصريين فوجدته يمتدحهم  ويقول الكلمة المشهورة ( ماكو فرق بين مصري وعراقي كلنا عرب )

** تشق السيارة طريقها بع ذلك وسط الغبار المتطاير على الطريق وعندما نصل الى قرية معينة يرشدني السائق الى النزول من السيارة واخذ سيارة أخرى توصلني الى القرية التي أقصدها

** وعندما أنزل من السيارة أسأل أحد القرويين عن مكان قرية آل حسن ومدرسة شهداء دير ياسين فيمشي معي هذا الشخص مسافة ما ثم يشير الى نقطة بيضاء صغيرة تبدو بعيدة جدا  ويقول لي هذه هي مدسة شهداء دير ياسين والتي توجد في قرية آل حسن لكنها تبعد بعيدة عن هنا  ويلزم لك أن تصل اليها عن طريق السيارة أو تصل اليها مباشرة عن طريق المشي عبر هذه الارض الزراعية

(( مغامرة بالمشي وسط الاعشاب الطبيعية ))

** شكرته وفضلت الذهاب مشيا عن طريق المشي وسط الأعشاب الطبيعية التي تملأ ارض رطبة ، لم اخاف من احتمال وجود أحد الحيوانات الشرسة أو الثعابين التي يمكن أن تكون مختفية بين الحشائش

لأول مرة أمشي في طريق في مثل هذا الهدوء ، واضطررت الى أن اجري في بعض الأحيان حتى أوفر بعض الوقت واحيانا كنت اجد منطقة شديدة البلل الف حولها

**بعد فترة نصف ساعة تقريبا من المشي والركض تتضح ملامح المدرسة وأصل اليها فأجد أمام المدرسة مدرس عراقي  يقف مع مجموعة من المدرسات  العراقيات منتظرين سيارة ترجعهم الى المدينة لأن اليوم المدرسي قد انتهى

** أول ما فعلته هو القاء التحية على الجميع ثم سألت المدرس العراقي وقلت له هذه هي مدرسة سانت كاترين ؟ فتعجب هذا المدرس لهذا الاسم  وقال لي لا انها مدرسة دير ياسين فقلت له ما معناه انني محاضر جديد في هذه المدرسة  ، عند ذلك أجد المدرس ينتفض من الفرحة  وكذلك المدرسات  لأن المدرسة فعلا كانت محتاجة  الى محاضر كي يخفف العبء على هؤلاء المدرسات اللاتي يعملن بالمدرسة الابتدائية الصباحية  ثم يضطرون لاكمال عملهم بالمدرسة الاعدادية المسائية

** عندما علم المدرس بأنني محاضر جديد أخذ الأمر الاداري ووضعه على مكتب المديرة  لكي تصمم لي جدولا بالمواد التي سوف ادرسها في اليوم التالي لأنها قد غادرت المدرسة الى بيتها بنفس القرية

** عرفني هذا المدرس على المدرسات العراقيات وقال لي ما معناه أن احضر في اليوم التالي لاستلام العمل وعرفتني احدى المدرسات على مكان بيتها حتى آتي اليها في اليوم التالي لكي نذهب معا الى المدرسة والتي دوامها مسائي ، لكني فضلت ان أعرف موقف السيارات المقلة لهذه المدرسة حتى أذهب بنفسي واعرف الطريق  الصحيح اليها

** بعدما رجعت مع المدرس العراقي والمدرسات  العراقيات الى مدينة الشطرة شعرت بشيء من الاطمئنان تجاه العمل  وخاصة لأنني ولأول مرة في العراق وفي حياتي أشعر أن زملائي في العمل يستقبلوني بحفاوة

** بقى الشيء المهم وهو السكن ... فعندما رجعت ذهبت الى فندق صلاح الدين  الذي به الحقائب وكان ينتظرني هناك صديقي داود  وعندما علم صاحب الفندق اننا مدرسين فعرفنا على غرفة أحد  المدرسين بهذا الفندق  ربما يقبلنا هذا المدرس  ضيوفا عنده بالغرفة هذه الليلة حتى يأتي الصباح  أو حتى نحصل على سكن بدلا من المبيت على السطح حيث الجو البارد في شهر نوفمبر

** دخلنا غرفة هذا المدرس وجدناها غرفة واسعة منظمة ونظيفة بها سريرين وبها تليفزيون ومسجل  وصور علىا الحائط وشرائط تسجيل تدل على حياة مستقرة ، ويسكن هذا المدرس في هذه الغرفة مع صديقه المهندس الزراعي  المصري أيضا

** دخلت أنا وداود عليهما واستقبلانا استقبالا جيدا به عبارات الترحيب مضبوطة جدا وتعارفنا نحن الأربعة وعرفت من خلال هذا التعارف أن هذا المهندس الزراعي الذي يبدو متقمصا لبعض الصفات والعادات العراقية ولكنه رغم ذلك لا تخلو أحاديثه من الشتائم في العراق والعراقيين

** أما المدرس واسمه الاستاذ / فتحي فيعرفنا على نفسه  بأنه قديم بالعراق ويبدأ في سرد الحكاوي الخيالية والتي لا تخلو من الشتائم أيضا

** وعندما أعرفهم على انفسنا وأقول لهما اننا محاضران منقولان من محافظة كربلاء بعد ان كنا أوشكنا على الاستقرار هناك  في فندق فاخر وبعد أن اشترينا كثير من المعدات واللوازم بما فيها من أطباق وأواني وبابور

** عند ذلك أجد هذا المدرس المصري يقف عن كلمة بابور  ويسخر مني كما لو كنت شخص أبله أكلمه ... نتجاوز عن ذلك  ونأخذ الحديث كله مزاحا .

** يعرفنا هذا المدرس على اسم مدرس يسكن في الفندق المجاور  وهو فندق الزهراء ربما يستطيع أن يدبر لنا مكانا معه .

** أذهب الى ذلك المدرس  فلم أجده في فندقه فنؤجل الذهاب اليه في اليوم التالي ونعود الى الاستاذ / فتحي  بفندق صلاح الدين  والذي لم يعرض علينا حتى ابقاء حقائبنا في غرفته واضطررنا الى ابقائها في الأمانات وصعدنا الى السطح لكي ننام في ليلة باردة جدا اضررت فيها الى ارتداء جميع ملابسي  بالاضافة الى بالطو ابيض للمعمل واضطررت للتغطي بلحاف غير نظيف

** وعندما بزغت الشمس نزل كل منا الى حاله فذهب داود الى المديرية  ليحل مشكلته التي تحدثت عنها وهي رفض المدير استلامه العمل ، أما أنا فأخذت جولتي في المدينة فتارة أدخل مطعما وتارة أجلس في مقهى حتى أتت الساعة الثانية عشرة ظهرا فذهبت الى موقف السيارات المؤدية الى القرية (آل حسن ) وعلى موقف السيارات تقابلت مع المدرسة التي أعطتني عنوانها بالأمس ومع المديرة التي كانت عائدة الى قريتها ومدرستها، وصعدنا في السيارة التاكسي والتي فيها تقسم الأجرة على خمسة ركاب ، لكن المديرة لم تقبل أن أدفع أجرتي في التاكسي ودفعتها لي كنوع من الكرم .

** وعندما وصلنا الى المدرسة دخلتها فوجدت المدرس العراقي وبعض المدرسات العراقيات بالمدرسة الابتدائية

** ومن خلال الحديث عرفت أن بالقرية مدرستان ابتدائيتين صباحيتين أحدهما للبنين واسمها مدرسة الامام علي والأخرى للبنات واسمها مدرسة شهداء دير ياسين ، والمدرس هو حسن جعفر كاظم يعمل بمدرسة البنين ويكمل حصصه بتدريس اللغة الانجليزية بمدرسة البنات

** ومدرسة البنات جميع مدرساتها سيدات ومديرتهم ( الست ضوية ) هي مديرة المدرسة الابتدائية  والمدرسة الاعدادية المسائية الملحقة بها ولم تكن إلا فصلان الأول والثاني الاعدادي

** وعرفت أن الطلاب بمدرسة البنين عندما يتخرجون يلتحقون بمدرسة اخرى على بعد 5 كيلو يركبون لها الدراجات

** أما طالبات مدرسة البنات يظلون في مدرستهم للالتحاق بمدرسة البنات الملحقة بمدرستهم الابتدائية

** وعلمت من خلال أحاديثهم أن مدرسة البنات الاعدادية في العام السابق كان يقوم بالتدريس فيها مدرسات الابتدائي مع مدرس آخر هو السيد مسافر والذي له الفضل في انشاء هذه المدرسة حتى لا يرهق البنات بالذهاب الى مدرسة بعيدة

** أما في هذه السنة وقد أصبحت فصلين الأول والثاني الاعدادي فالذي يقوم بتدريس اللغة الانجاليزية والرياضيات  الاستاذ /حسن جعفر  والذي يدرس أساسا في المدرسة المجاورة - مدرسة الامام علي الابتدائية للبنين ،  وكان لا يحمل شهادة جامعية بل يحمل شهادة متوسطة من دار المعلمين ومع هذا المدرس مدرسة أخرى ( الست ساهرة ) وهي خريجة كلية الاداب قسم اجتماع وهي معينة حديثا بأجر ثابت وهي لا تقوم بالتدريس في المدرسة الابتدائية لأنها جامعية ووظيفتها مدرسة اما خريجو دار المعلمين والمعلمات يقال عنهم معلمين  وليسوا مدرسين .

** اتفقنا على أن أقوم بتدريس العلوم للصفين وأن تقوم هي بتدريس اللغة العربية والدراسات الاجتماعية و التربية الدينية

(( تسع حصص اسبوعيا ))

** حسبت الحصص وجدتها حوالي تسع حصص اسبوعيا أي معناها تسعة دينار اسبوعيا فقلت لهم أنني يجب أن ادرس 24 حصة على الأقل حسب الأمر الاداري وأنه من غير المعقول أن أحضر يوميا الى المدرسة وأن أدفع اجرة مواصلات على 9 دينار اسبوعيا وقلت لهم أيضا انني يجب أن أقوم بتدريس 24 حصة  لأنني سوف أعين في القريب كمدرس بأجر ثابت في هذه المدرسة باذن الله

وسوف تضطرون الى اعطائي نصابي الكامل

(( 19 حصة اسبوعيا ))

** عندما شرحت لهم ذلك فزودوني الى جانب حصص العلوم 6 حصص لغة عربية للصف الأول وأربعة حصص جغرافيا للصف الأول والثاني  فأصبح عدد الحصص اسبوعيا 19 حصة ، أي 19 دينار اسبوعيا فقبلت هذا الحال على أمل أنني في يوم ما سوف  أتعين مدرسا بأجر ثابت كما وعدونا بالوزارة ، وعرضوا علي بعد ذلك باعطائي حصص الدين والتاريخ للصف الأول فلم أقبل لاحساسي بعدم القدرة على تدريسهما جيدا

(( رفض تدريس حصص التاريخ والدين ))

** والسبب الآخر والهام الذي جعلني لا أقبل تدريس هاتين الماديتن هو رغبتي أن يكون التوزيع منطقيا وألا يخالف القوانين العامة لأن معنى تدريسي للتاريخ والدين أن المدرسة التي تعمل بمرتب ثابت سوف تقوم بتدريس 10 حصص فقط

(( محاولة لأخذ حصص الانجليزي والرياضيات ))

** كنت أفكر بيني وبين نفسي أن آخذ دروس اللغة الانجليزية أو الرياضيات التي يقوم بتدريسها المدرس العراقي الاستاذ حسن ولم أقبل التحدث في هذا الشأن حتى لا أقطع رزقه وحتى أحافظ على روحه الطيبة التي لمستها فيه حيث كان يحدثني دائما عن حبه لمصر ورغبته في الذهاب اليها والاستقرار بها ويحدثني عن امله في الزواج  والاستقلال عن أهله ويحدثني عن رحلاته الى أوروبا الاشتراكية والتي كان يقوم بها كل صيف قبل الحرب والتي أكسبته ثقافة خاصة  وحدثني أيضا عن تدريسه سابقا في مدرسة بمحافظة اربيل  والتي جعلته يجرب حياة الغربة ، وفوق كل ذلك أنه قال لي أن عنده جيتار أتى به من يوغسلافيا ويريد التعلم عليه

** شعرت اثناء التحدث معه كما لو كان مرجعا للعديد من الثقافات والصفات الانساية  كان يكبرني بسبع سنوات  ويتحدث لي بكل تواضع واحترام ولا ينطق الا كلمة استاذ علاء

(( بارك الله فيما رزق على الـ 19 حصة ))

** رجعت الى الفندق راضيا على الـ 19 حصة اسبوعيا وحمدت الله على ذلك ، وعزمت على ألا استمع الى تحريض الكثير من الزملاء على ترك المدرسة أو الشكوى لمدير التربية لكي يعطوني 24 حصة  باضافة اللغة الانجليزية والتي كان لي الحق في تدريسها لأن معي شهادة موثقة من جامعة الاسكندرية تدل على دراستي كورس كامل في اللغة الانجليزية ، صممت ألا أترك المدرسة حتى أذا لم يأت التعيين كمدرس بمرتب ثابت .

** قارنت هذا الوضع بالمرتبات المصرية فوجدت أنني في طريق سليم  ويمكن لي على الأقل  أن أحصل على 1000 جنيه في هذه السنة الى جانب الخبرة ، لم أعبأ بكلام الكثير من الزملاء المصريين الذي يبعث القلق والياس في النفوس ، واكتفيت بأنني حصلت على وظيفة او عمل أنال منه الاحترام والتقدير

** بقيت مشكلة الفندق ، أين نبيت الليلة انا والاستاذ داود ، قابلت الاستاذ عبد الأمير المسئول الحزبي  الذي تحدث عنه من قبل وركبت معه اللنش  وكان ذلك بالصدفة اثناء تناول الطعام بمطعم مع الاستاذ داود ، سلمت عليه وعزمت عليه بالتفاح الذي كنا قد اشتريناه قبل دخولنا المطعم ، كنت أعرف أنه يسكن في فندق الزهراء  لكني لم اقبل أن استعين به في البحث عن مكان فربما تكون معاونته لنا لها ثمن وهو الاشتراك في الحزب كما كنا نسمع

** حاولت أنا والاستاذ / داود أن نعرف أسعار  الفندق السياحي بالشطرة وجدناها غير ملائمة حيث أن اجرة الليلة 5 دينار رغم أن الفنادق العادية ثلث أو نصف دينار

(( المبيت في فندق الزهراء مع استاذ علي ))

** ذهبت الى فندق الزهراء أنا وداود  لمقابلة المدرس المصري الاستاذ علي  الذي عرفنا اسمه من الاستاذ فتحي في الليلة السابقة  وهناك في فندق الزهراء وجدنا الاستاذ علي  وزميله محروس واللذان رحبا بنا  أنا وصديقي داود  بالمبيت عندهم بالغرفة لحين حصولنا على سكن كان الاستاذ علي خريج علوم اسكندرية ويعمل محاضرا ايضا في قرية بعيدة أما زميله محروس فهو خريج دبلوم تجارة يعمل موظفا باحدى المصالح الحكومية بمدينة الشطرة

** يمكن القول ان هذا المدرس المصري الاستاذ /علي  وزميله محروس قدما خدمة انسانية حقيقية خالية من المجاملات وحب الاستعراض  فقد سمح لنا بالنوم معه رغم أن الغرفة كانت ضيقة ولا تسع أكثر من سريرين .

** في اليوم التالي  للحصول على هذا السكن وعندما ذهبت الى المدرسة طلبت مني المديرة أن أدخل الحصص فقلت لها أنني متعب اليوم أنني أعاني من عدم توفر السكن  المناسب والنظيف لم أقل لها انني ابيت في غرفة ضيقة بها أربعة أشخاص، فوجدتها تنظر الي  بشفقة وتقول الكلمة المشهور (خطية) أي مسكين .

** ثم قالت لي هذه المديرة :  انني لو كنت ولد لاستطعت أن ادبر لك مكانا في بيتنا بالقرية لكن التقاليد العراقية وتقاليد العشائر لا تسمح بذلك  فقلت وكذلك التقاليد المصرية فالعرب دائما طباعهم متشابهة سواء في مصر أو في العراق واستطردنا في الحديث  وقلت لها انني عندما ذهبت الى المتحف البغدادي وجدت أثاث المنزل البغدادي القديم يشبه تماما لأثاث منزل جدتي القديم من حيث السراير النحاسية والدواليب المرصعة  بالصدف والمرايات  والأواني النحاسية ..... الخ فقالت لي نعم  اننا نلاحظ ذلك في افلامكم ، رغم أن بعض الأفلام توضح عكس ذلك حيث أن البنت أكثر تحررا في مصر وبدأ الحديث يأخذ شكلا طريفا عندما بدأت احدى المدرسات تقلد بعض العبارات المصرية  الشعبية كما لوكانت مصرية بنت بلد .

(( عرض مكان للمبيت في المدرسة المجاورة ))

** وبعد فترة من الحديث الشيق شعرت بأنهم انسجموا معي لاندماجي معهم في الحديث واحترامي لهم

** بعد ذلك حضر الى المدرسة مدير مدرسة الامام علي الابتدائية للبنين  وهي المدرسة المجاورة في نفس القرية واسمه الاستاذ / هادي – وهو مدير المدرسة التي يعمل فيها حسن جعفر واجتمع هذا المدير مع  المدرسات الموجودات بالمدرسة ومع الاستاذ حسن  وبعد الاجتماع وجدته يعرض علي عن طريق حسن جعفر أن أسكن في غرفة المخزن بمدرسته وقال لي أن هذه الغرفة يمكن اعدادها لك وكان يسكنها سابقا أحد المدرسين العراقيين .. وقال لي أن سكنك فيها سوف يكون وديا  ولن يكلفك ذلك أي خصم من المرتب عندما تتعين

(( رفضي لهذا السكن في البداية ))

** فكرت في هذا الامر قليلا ثم رفضت ... ثم قال لي ما معناه ( ان الغرفة سوف تكون جاهزة في أي وقت تريدها ) .

(( محاولة للمبيت في بيت تابع لناظرية الزراعة ))

** بعد ذلك فكرت في تدبير سكن آخر لي  وهو بيت تابع لناظرية الزراعة  يقع أمام مدرستي تماما وكانت احدى المعلمات تسكن فيه سابقا مع زوجها الذي كان يعمل بالناظرية .

سألتهم عن الاجراءات اللازمة لأخذ هذا البيت فكتبت لي احدى المدرسات طلبا بخط يدها لكي أقدمه الى دائرة حكومية معينة

(( محاولة للمبيت في احد بيوت القرية ))

** يوم آخر يأتي لي المدرس/ حسن جعفر ويقول لي أن أحد اصدقائه المدرسين واسمه الاستاذ / مطيع والذي يسكن في هذه القرية مع امه وأخيه فقط على استعداد أن يسكنك معه نظير أجر بسيط وعلى ضمانتي

**أرحب بهذه الفكرة واذهب معه الى هذا المدرس  بداخل القرية وهناك اقف بجوار البيت واتأمل ما حوله من منطقة خضراء ونخيل وجو طبيعي واتمنى أن أسكن بهذا البيت فهو يبدو مريحا للاعصاب ويمكن أن يخفف عني متاعب الغربة ... لكن عندما يأتي الاستاذ/ مطيع  يرحب بنا ويطلب منها ان ندخل البيت فنرفض ثم يستأذن مني الاستاذ/ حسن لكي يتحدث مع الاستاذ مطيع حديثا خاصا  وبعد أن يفرغا من الحديث  يقول لي الاستاذ حسن ان الاستاذ / مطيع غير رأيه وقال انه كان يقول ذلك فقط على سبيل المزاح ، لم اعبأ بذلك لأنني كنت معتادا على هذه التقلبات

(( تكرار عرض السكن في مدرسة الامام علي ))

** وسار معي الاستاذ / حسن وعبر لي عن شديد أسفه  ورافقني السير الى طريق السيارات  وتبادلنا الحديث والاحظ أن الاستاذ حسن يؤيد فكرة السكن بمدرسته ويقول لي أن الاستاذ هادي رغم أنه نظامي ورسمي جدا إلا أنه موافق جدا على سكنك بالمدرسة وخاصة عندما امتدحتك أمامه .

** ولاحظت أنه يأمل أن اسكن بهذا المكان حتى تتاح له الفرصة لتعلم الجيتار ، حيث أنه طلب مني من قبل أنه يريد أن يتعلم الموسيقى لكي يقوم بتدريسها للطلاب الصغار ، ولاحظت أنه يهوى مهنة التدريس وأنه مقتنع بها تماما ويصفها بأنها أقدس مهنة لانها تصنع العقول  ، وأثناء حديثه معي كان يشير إلى أن المعلم لابد وأن ينغم بصوته  ولا يجب أن يسير على وتيرة واحدة كمثل دكتور الجامعة 

** أثناء التجول على طريق السيارات كنا نتناقش في موضوعات كثيرة ، وكثيرا ما كنت أجد أفكاره متقاربة مع افكاري

** كان يحب الحديث معي باللهجة المصرية ، ونبهته الى أنه عندما يتحدث باللهجة المصرية يبدو مثل الخواجات اليونانيين الذين يعيشون في مصر  ، فيقول لي أن بعض الناس يقولون عنه أنه يشبه المصريين فأقول له لا ان شكلك أسيوي

(( محاولة تدريس الرياضيات ))

** بعد عدة أيام من عملي بالمدرسة عرضت على هذا المدرس العراقي أن أقوم بتدريس الرياضيات بدلا منه فيرفض ، وبعد ذلك أقول للمديرة لكي تقنعه بذلك فاقتنع بصعوبة وقمت أنا بتدريس الرياضيات للصف الأول حتى يزيد دخلي من المحاضرات ، وكان يساعدني في تدريس هذه المادة الاستاذ علي المصري حيث عرفني على المبادئ الأساسية للرياضة الحديثة التي يدرسونها

** لكن بعد اسبوعين من تدريس هذه المادة أجد أن الاستاذ حسن يطلب من المديرة أن تعيد له حصص الرياضيات فقال لها إما أن أدرس الرياضيات والانجليزي مع بعض أو عدم تدريسهما ، كان من الممكن أن أقول للمديرة أنني على استعداد لتدريس الرياضيات والانجليزي بدلا منه وكان من الممكن أن المدرسة ليست محتاجة لأكثر من اثنين مدرسين حيث أنها فصلين فقط  أنا للمواد العلمية والانجليزي والست/ ساهرة للمواد الأدبية ، لكنني  لم اقبل أن أقول لها ذلك حتى لا أقطع رزقه

** عرضت علي المديرة هذا الأمر  هي آسفة جدا  فقبلت أن أعطيه حصص الرياضيات مرة ثانية حتى أحافظ على علاقتي معه وحتى لا أخسره صديقا

** ورجع جدولي كما كان 19 حصة أسبوعيا وعرض علي الاستاذ حسن ان أحاضر في مدارس أخرى صباحية في الشطرة لكي أزيد من دخلي وأعطاني بعض الأسماء للمدارس التي يمكن ان أجد فيها عملا  لكنني لم أبحث بجدية  وفضلت البقاء على 19 حصة

** وفي هذه الفترة كنت ابحث عن سكن غير ذلك الفندق الذي أسكن فيه مع الاستاذ علي وكنت أسعى في اجراءات بيت الناظرية الذي يقع امام المدرسة  لكنني لم أوفق في الحصول عليه أصبح الأمر متأزما  فلا يوجد مكان خالي بأي فندق في مدينة الشطرة

**  وكنت أذهب أسبوعيا الى بغداد لكي أقضي ليلتين هناك في فندق زين القوس مع الاستاذ عادل بطرس والذي كان يستقبلني دائما بحفاوة  ويعطيني الرسائل التي وصلتني عن طريق بغداد كما ذهبت مرة أخرى الى كربلاء لاستلام بعض الرسائل من فندق أنوار الربيع الذي كنت أسكن فيه مع الزملاء المصريين الثلاثة وفي أحد الأيام صممت أن أرجع مباشرة من كربلاء الى محافظة ذي قار في نفس اليوم  وذلك كلفني كثير من المال ، لأنني كنت مسافر عصرا من كربلاء ولم يكن متاحا للمواصلات المباشرة فاضطررت الى التبديل  بين سيارات الميكروباس والتاكسي وغيره ، وكان من الممكن  المبيت في أي مدينة على الطريق لكن شيئا من العناد جعلني لا أفكر في مصاريف قليلة أو كثيرة

** في الطريق من كربلاء الى ذي قار مررنا وتوقفنا بعدة محافظات والتي كان منها محافظة السماوة  التي وصلنا اليها ليلا واثناء بحثي عن سيارة توصلني تعرفت على مجموعة من العساكر  يريدون الذهاب ايضا الى ذي قار فاتفقنا على استئجار تاكسي ، واخيرا اتفقنا مع سائق سيارة خاصة وعرفنا السائق باسمه حتى لا توقفه اللجان ويدفع مخالفة لأستعماله سيارة الملاكي كأجره ، ومن هذه السيارة الى سيارة أخرى تاكسي يصيح شطرة شطرة اعتقدت أن سائقها مخمورا في أول الأمر ولكن تبين انه عاقلا ويتكلم باتزان ويمدح عبد الناصر وقال لنا هذا السائق في الطريق أنه كان بمصر ايام 18و19 يناير ايام الا نتفاضة وذكر أنه تم القبض عليه لأنه بدا غير مصري ، وتطرق الحديث الى امتداح في صفات المصريين الى أن وصلنا الى الشطرة  ووصل كل الى فندقه

** في يوم من الأيام التي كنت أذهب فيها الى بغداد للهرب من الفندق  الذي أسكن فيه وخوفا  من حدوث خلافات  بيني وبين زملائي كما كان يحدث في كربلاء

** ذهبت كالمعتاد لزيارة العديد من الاصدقاء والذين منهم صاحب خالي  الذي كان يسكن في بيته الهادئ  في منطقة اسمها الاسكندرية قريبا من كربلاء .

** ومن أهم الزيارات زيارة الاستاذ / عادل بطرس – المحاسب الذي تحدثت عنه من قبل وجدته مشغولا بتحضير حقيبته استعدادا للسفر الى الأردن في مهمة تابعة لشركة السياحة التي يعمل بها ، وعرفت منه أن مهمته سوف تستغرق اسبوعين ، واضطررت للبقاء معه  ومعاونته في تحضير حقيبته وطلب مني أن أقول له ما اريده  من الأردن  لأنه سوف يشتري من الاردن أشياء رخيصة .

** عرض أيضا خدماته  على اصدقائه الكثيرين بالفندق الذي منهم من  أعطاه نقودا لكي يحجز له طائرة من الادن الى مصر  ومنهم من أعطاه فلوس لشراء كاسيت أو ساعة أو غير ذلك وسمعت أيضا أن صاحب الفندق اعطاه ما يقرب من 200 دينار لكي يشتري له أشياء من الأردن ، وربما أعطاه هذا المبلغ على سبيل القرض .

** اما انا لم أعطه فلوس لأنني لم أكن قد صرفت فلوس المحاضرات ، طلبت منه فقط أن يشتري لي راديو صغير اذا أمكن ، وعندما طلبت منه هذا الطلب أشار بعينه كعادته وقال لي عيني لك ، ثم قال لي أيضا أنني أوصيت موظفي الفندق بعدم السماح لأحد بالنوم في فراشه اثناء ذلك الاسبوع

** وعندما حان موعد السفر قام الكثير من أصدقاء عادل بطرس بتوديعه كما لو كان وزيرا يسافر في مهمة رسمية .

** وأحضر صاحب الفندق الاستاذ/ جودة سيارته لكي يوصله بها الى المطار وأذكر في ذلك اليوم أن الاستاذ/عادل بطرس كان يقضي في ربط الكرافتة وقتا كثيرا فتارة يطولها وتارة يقصرها حتى يصل الى أقصى درجة من الاناقة .

** رجعت في ذلك اليوم من بغداد فخورا بصداقتي للاستاذ /عادل بطرس وكنت أعلق عليه آملا في أن يساعد زملائي في مساعدة زملائي للحصول على تذاكر سفر طيران أو يساعدني بأي شيء يخص السياحة

(( السؤال عن عادل بطرس ))

** بعد أكثر من اسبوعين من هذا اليوم ذهبت الى بغداد كعادتي  وزيارة الاستاذ/ عادل  في الفندق فعندما دخلت الى الفندق سلمت كعادتي على أبو عمار ( عامل الفندق العراقي ) فرد لي السلام عادي جدا وأخذ يعد لي الشاي  ثم دار الحديث بيننا كالآتي :

هو: ما اسمك ؟ أنا : علاء الدين محمد . هو : كنت أظنك مسيحي ، أنا : لماذا ؟

هو: لأن شكلك يشبه المسيحيين لأن المسيحيين عندنا بالعراق أجمل من المسلمين، كيف عرفت عادل بطرس ؟  أنا : عن طريق الفندق ،  هو: كيف تعرفت عليه ؟

أنا : كنت أسكن في غرفة رقم (1)  وعندما خلا مكان  بالغرفة وجدته يأتي اليها وكان من الطبيعي أن اتعرف عليه واعتبره صديق لانه مثقف وكان يعمل محاسبا في مصر على حد قوله .

هو : لا تقل لأي أحد انك تعرف عادل بطرس      أنا : لماذا

هو:  لأن عادل بطرس قد سافر الى الاردن على أساس أنه ذاهب لمهمة تابعة لمكتب سياحة ولن يستغرق أكثر من اسبوع ووعدنا على يوم انتظاره في يوم خميس وأخد فلوس من أكثر من واحد  لكي يشتري أشياء رخيصة من الأردن ، لكن من يوم الخميس ومابعده من أيام ولم يعد ذهبنا الى شركة السياحة التي كان يقول عنها في شارع الجمهورية  فلم نجدها  بحثنا عن أسماء شركات السياحة  بالبلد كلها وجدنا أن كلمة شركة عبر العالم  وهمية ولا أساس لها

أنا : عجيبة  انني لا أصدق  أن يحدث هذا من الاستاذ عادل

هو : كان المفروض اننا ندرك منذ يوم سفره  أنه لن يرجع لأنه أخد جميع اشيائه مثل لمعة الاحذية  ولم يترك الا حقيبة صغيرة لم نجد فيها إلا ملابس داخلية عديمة القيمة ،  أنا : لا أصدق حتى الآن

** ثم قدم لي كوب كبيرا من الشاي  وقال لي لا تشغل بالك  ثم أخذ يحدثني أحاديث كثيرة عن البستان  الذي يمتلكه في محافظة الكوت  ويحدثني عن ذي قار ويقول لي كيف حالك مع العرب هناك  انهم طبعا ناس طيبين  وانت لابد وأن تكون قد انسجمت معهم

** عندما كان يحدثني  في أي موضوع تظهر علامات الدهشة والذهول واضحة على وجهي

** حدثت هذه الواقعة  ولم أسمع أن عراقيا من مسجلي الفندق يتشدق في كل حديث  عن ذكر هذه الواقعة  رغم أن هذه  الواقعة كانت يمكن اعتبارها ورقة رابحة في اللعب بسمعة المصريين المغتربين

** كنت أسمع فقط من أبو عمار أنه يقول ( أصابعك مو سوا ) أي أصابعك لا تشبه بعضها .

** لم تؤثر هذه الحادثة على موقف المسجلين العراقيين بالفندق أو ابو عمار أو صاحب الفندق "جودة " تجاهي فالجميع كانوا يعاملونني نفس المعاملة الجيدة السابقة

** فكان أبو عمار يهرع في كل مرة الى تجهيز مكان لي بالفندق عندما يجدني أنزل عليه بل أنني كثيرا ما كنت أدخل الفندق نهارا لكي أستريح في غرفة رقم (1) دون أن أحجز ليلة بالفندق

** وكذلك فإن صاحب الفندق ( الاستاذ جودة ) رغم أن ملامحه كانت صارمة ورغم أن حادثة النصب تمسه في فلوسه وفي سمعة الفندق ورغم كل ذلك فلم يغير علاقته معي رغم أنه يعرف أنني صديق حميم لعادل بطرس

** وفي احدى الليالي الباردة قال الاستاذ جودة للعامل المصري عم شعبان ( الذي أعطيت له نصف دينار سابقا ) : احضر بطانية للاستاذ علاء ، ويبدو أن عم شعبان استكبر أن يحضر البطانية وقال لصاحب الفندق بصوت خافت : " اساتذة ومحاسبين ومهندسين وبعدين يطلعوا زي عادل بطرس "

** لم تؤثر في هذه الكلمة كثيرا لأنني اعتدت على مثلها من كثير من المصريين ذوي العقد النفسية .

** بعد ذلك أسمع عن حوادث سرقات كثيرة تتم بداخل الفندق بين المصريين  وبعضهم مما أدى الى غلق الفندق في الفترة الصباحية حتى الثانية عشر ظهرا

(( في سوق القرطاسية ))

** أذكر أنني في خلال أيام ذهابي الى بغداد تعرفت من سوق القرطاسية ( سوق الادوات الكتابية ) على بائع للكتب القديمة وهو رجل عجوز سمين  يبيع الكروت واللوحات القديمة أيضا

لاحظت أنه يبيع نوعا من الكروت مكتوب عليها سعرها 15 فلس ويبيعها بنفس سعرها رغم أن هذه الكروت نفسها وصل سعرها في الطبعات الجديدة 100 فلس

** اشتريت منها الكثير ومنها كروت مصورة للأماكن السياحية والدينية  في العراق التي كنت أعتبرها دليلا يعرفني على الأماكن التي يمكن زيارتها بالعراق ، ومن كثرة هذه الكروت كان الزملاء المصريون يقولون لي ( انتى لاقي الكروت دي فين ) ومنهم من كان يتطفل  بطلب كارت أو أكثر فاعطيه له ، ولاحظت فيما بعد أن الكروت قد سرق منها .

** وعندما اشتريت كاميرا وصورت زملائي بها كنت أتحصل على تكلفة الصور بصعوبة فمنهم من يماطل ومنهم من يفاصل  لدرجة أنني كرهت التعاملات المادية مع الزملاء .

** في هذه الفترة – أثناء العمل مدرس بالحصة – كالن دخلي قليل جدا بالنسبة لغيري من الزملاء المصريين حيث كنت أحصل على 80 درينار شهريا وكانت مصروفاتي كثيرة في الأكل والسكن والمواصلات ، أما بقية الزملاء فكان دخلهم أكثر من مائة دينار ولا يصرفون يوميا إلا القليل وكانوا دائما يتحسرون على حالهم ودائمي الشكوى

(( مدرس لغة عربية لا يفقه شيئا ))

** ومن هؤلاء الزملاء من كان يقوم بتدريس اللغة العربية وهو لا يفقه شيئا فيها وكان يسأل زملائه أسئلة لا تدل على أنه حاصل على مؤهل عالي وعندما كان يتكلم أمامنا نحن المصريين لا نفهم كلامه وكان يستعين بزميلي داود جرجس في وضع أسئلة الامتحانات الشهرية ، وكان دائم الشكوى من قلة الفلوس وكأنه كان يكسب المئات في مصر ، وكان مستهترا الى أبعد الحدود ومنه سمعت مثل ( لو خربت دار ابوك خد منها قالب ) وغيرها من الأمثلة الريفية التي كان يذكرها أثناء أحاديثه ، ورغم ذلك فقد كان شكله لا ينم الا على التقوى والايمان ،  لذلك فإنني ألغيت التعامل مع الاشخاص وفق مظاهرهم ، وأصبحت أتشكك كثيرا من الابتسامات والكلمات الطيبة .

** شخص آخر من الريفيين أذكر كلماته : احنا خنخللوا فيها والا حنخللوا فيها .

** شخص آخر وهو محمد الزيني الذي أتى بدلا من محروس الذي كان يسكن مع الاستاذ علي – الاسكندراني – وكان من المنصورة – وكان يقضي نصف ساعة في تلميع الحذاء ويالها من كارثة اذا تعثرت في حذائه أو لمسته . ومن صفاته  التشدق بالكلمات المبهرة فيما يعرفه وما لا يعرفه وكنت اتجنب مناقشته وأتركه يتحدث عن مغامراته الوهمية .

** وذات يوم قلت له:  أن رجل الشارع في مصر  لو رأى مجلسا يتحدث عن علوم الذرة يتدخل في الحديث ويجادل فيه  كما كنت أقول له أنه للأسف الشديد  أن بعض الناس لا يتعلمون إلا من أجل التحدث في العلم ، وكأن التعليم من أجل الكلام فقط  .

** وذات يوم عندما كان يتحدث مع محروس يقول له محروس : هو الكلام بالكوم ؟   قوللي انت ما بتعرفش ف ايه علشان أكلمك فيه .

** شخص آخر وهو الاستاذ فتحي من المدرسين المصريين  والذي تحدثت عنه من قبل وهو اجتماعي جدا يكسب الأصدقاء  باسلوبه في الحديث وان كان مبالغا كثيرا إلأى درجة الكذب واختراع القصص 

** عندما كنت أتأمل هذه الطبائع الشاذة أدركت أننا نحن المصريين نختلف عن غيرنا بهذه الطبائع

** كانت المدرسة التي أعمل بها تضم معلمات فقط في فترتها الصباحية الابتدائية  أما مدرستي التي أعمل بها هي فصلين اعدادي تقوم على ادارتها مديرة الفترة الصباحية

** كانت الدراسة تنتهي صباحا في الثانية عشرة ، وتبدأ الفترة المسائية في الثانية عشر والنصف حيث أحضر أنا والست ساهرة والاستاذ حسن ، وكانت الست ضوية مديرة المدرسة تسكن في نفس القرية  فكان من السهل عليها أن تذهب الى بيتها في الفترة البينية

** كنت افضل الذهاب مبكرا في الساعة الحادية عشر حتى اتهرب من حياة الفندق الذي نعيش فيه أربعة في غرفة واحدة

(( عمال في المدرسة ))

** كان بالمدرسة عامل اسمه ( أبو فاضل ) عمره أكثر من ستين عام كنت استحسن الحديث معه عن ذكرياته وذهابه الى الملا ( الكتاب ) عندما كان صغيرا حيث كان يحفظ القرآن الكريم وكان يقول لي أن المدرسة عندما تم انشائها عام 1952 لاقت معارضة من شيخ القرية في البداية وكان اسمه ( الكوتي )  ثم يستطرد في الكلام ويقول ربما كان يريد ان تسمى مدرسة الكوتي

** سألني هذا العامل ذات يوم لماذا  يعتبر الجو في مصر أفضل من العراق رغم أن مصر تقع جنوبا حيث القرب من خط الاستواء ، هذا السؤال جعلني اتعجب لثقافة هذا العامل البسيط وجعلني أتذكر أحد مدرسين الدراسات من يردد أن العراق تقع على الخط الذي تقع عليه الصعيد

** عاملة أخرى في المدرسة  ام عبد الله كانت تجيد القراءة والكتابة ايضا ومن شدة بساطتها ظننت فترة طويلة بأنها أمية ولم أعرف أنها تجيد القراءة إلا عندما وجدتها تملي أسماء الطالبات على المديرة وكان لها ابنا وابنة بالمدرسة الاعدادية وتزوجت من شاب 21 سنة خريج مدرسة الزراعة

** عاملة أخرى لا تجيد القراءة وكانت تعترف بأنها تقرأ خط المطبعة فقط ولكنها لا تستطيع خط الكتابة باليد وأعجبني فيها هذه الدقة في وصف قدرتها المحدودة على القراءة .

** كنت ألاحظ ان كل كلمة أقولها بالفصل تصل الى آبائهم وامهاتهم ولاحظت اعجابا من هؤلاء الآباء والامهات باسلوبي المحترم كما سيأتي ذكره فيما بعد .

(( حضور صديقي محمد القاضي للمدرسة ))

** في أحد الايام واثناء ذهابي الى مدرستي المتوسطة قبل الميعاد فوجئت  بمديرة المدرسة مع بعض المدرسات تستقبلني بجوار المدرسة وبطريقة غير اعتيادية وتقول لي عندنا مفاجأة لك خمن ما هي ؟  احترت في الرد  فصاحت احداهن وقالت شخص ما أتي يسأل عليك ثم مشى قلت لهم مصري أم عراقي قالو مصري ازدادت حيرتي  لأنه لا أحد من زملائي يعرف مكاني  بالضبط ، واذا حدث ن فلماذا حضر ؟ لابد وأن يكون سببا قهريا ،

** فوجئت أن صديق لي من الاسكندرية ( محمد القاضي ) ويعمل في البوفيه المجاور لبيتنا في محطة الرمل قد أتى لزيارتي .

تعانقنا وجلسنا نتحدث سويا بالكلام المصري السريع وسط المدرسات العراقيات اللاتي تركن حصصهم لمشاهدة هذا اللقاء .

عرفت أنه تعب كثيرا من أجل الوصول الى مدرستي لأنه كان يعرف أنني في كربلاء وعانى الكثير الى أن عرف مكاني  ، وقال لي أنه حذائه مازال يحمل تراب مصر .

وسألته عن أخبار اسرتي فطمأنني عليهم لكني عاتبته على عدم ذهابي الى اسرتي قبل سفره مباشرة  لكي يأخذ معه شريطا مسجلا أو رسالة حديثة .لكنه عندما شرح لي ظروفه وأعذاره  قبلت له هذه الأعذار وظللنا نستعيد معا ذكرياتنا في الاسكندرية وفي المدرسة أعددت له احدى المعلمات قطع من الخبز مع قطعة من الجبن وقمت أنا بعمل الشاي  لأن العاملة كانت غائبة   .

** كنت أتركه يجلس مع المديرة وأنا أدخل الحصص وأقوم بعملي حسب الجدول وكانت معنوياته مرتفعة وكان يتكلم بسرعة كعادته– دهشت مديرة المدرسة – ويتحدث عن عمله وخبرته في الدواجن ،

** ومن خلال سرعة كلامه واندفاعاته قالت له احد المدرسات يبدو انك أشقى من الاستاذ علاء وأكثر مرحا منه ، وكان ذلك بالفعل فقد كنت أعاني من أزمة السكن وتعبي في التعامل مع أشخاص مصريين اشعر بينهم بالاغتراب الذي لا أشعر به مع آخرين عراقيين

** وها هو الحال يزداد توترا عند مجيء هذا الشخص بهذه المفاجأة وبالتأكيد هو يتعشم كثيرا في أن أقدم له خدمة في العثور على عمل أو سكن

بعد انتهاء  اليوم المدرسي رجعت أنا والاستاذ حسن والست ساهرة  وصديقي محمد القاضي الى مدينة الشطرة ودفع لنا الاستاذ حسن  جميع الاجرة  بمناسبة مجيء ضيفا علينا

** وعندما وصلنا الى مدينة الشطرة ذهبنا الى أحد المطاعم ومنه الى مقهى كبيرة وشرحت له ظروفي بالتفصيل وهو أنني مازلت أعمل مدرسا بالحصة ودخلي قليل وأنني حتى الآن لم أحصل على سكن بل أقضي هذه الايام في غرفة سريرين نعيش فيها اربعة افراد .

** لكنني طمـأنته على فرص الحصول على عمل وكتبت له عناوين تنفعه في بغداد مثل عنوان الشركة التي كنت أعمل بها وعنوان المركز الرئيسي الذي يمكن من خلاله العمل باحدى مزارع الدواجن وخاصة انه لديه الخبرة في هذا المجال

** وأعطيت له أيضا عنوان الاستاذ عادل بطرس الذي تحدثت عنه من قبل ( قبل ان تحدث مشكلة النصب التي تحدثت عنها )

** ونظرا لأن غرفتنا لم يكن بها مكان  فبحثت له في الفنادق الأخرى عن مكان في صالة احد الفنادق ثم رجعنا مرة أخرى الى المقهى حيث جلسنا نتسامر حتى ساعة متأخرة من الليل وعرضت عليه مبلغا من المال كالمعتاد كما يفعل المصريين مع بعضهم  لكنه رفض وشكرني على ذلك  ثم انصرف الى الفندق الذي حجز فيه  والذي منه غادر الشطرة الى بغداد في الصباح التالي

** وبعد فترة ارسل لي رسالة يوضح بها عنوانه به وهو فندق كوكب الفرح ببغداد وبعث رسالة أخرى على عنوان المدرسة  والتي فيها كان يبعث سلامه الى الست ضوية مديرة المدرسة  مما سبب لها بعض الحرج ولاحظت المديرة خطه الرديء وبعض الاخطاء في الاسلوب .

** كنت اتمنى ان اقدم له كل ما استطيع من خدمة الى هذا الصديق لأنني اعتبرته اقرب الاصدقاء الي في الغربة وقد يفرح أفراد اسرتي عندما يعلمون أننا تقابلنا معا واننا على اتصال بالغربة .

** حدث في هذه الفترة ان صديقي داود استطاع أن يحصل على سكن في فندق صغير جدا لا يتكون إلا من حجرتين وصالة  ولا يسع إلا لسبع أفراد  أي أن الفندق يشبه البيت الصغير ، ورغم أن المبنى قديم مليء بالشقوق إلا أنه يتميز بالهدوء  في الداخل  ويتميز ايضا بموقعه في وسط السوق بمدينة الشطرة وأكثر ما كان  يتميز به هو ان صاحب الفندق رجل ذو اخلاق حميدة وهو دائما مهتم بسكان الفندق  وخاصة الاستاذ داود وصاحبه ودائما يأتي اليهم ويسأل  عن أحوالهم وراحتهم  ويسمح لهم بطهي الطعام في الفندق .

** وفي أحد المرات عندما ذهبت زيارة الى صديقي داود بالفندق وجدته ذاهبا  مع صاحبه الى صاحب الفندق لأنه يدعوهم الى تناول العشاء معه في البيت ربما بمناسبة معينة أو بدون مناسبة

**لم يكن لي مكان بهذا الفندق  لكني من الممكن أحصل على مكان حتى ولو اضطررت لشراء سرير أضعه في الصالة  لكنني لم أفعل ذلك لأنني كنت مشغول بعمل المحاولات لأخذ ذلك البيت الجميل المجهز التابع لناظرية الزراعة والذي يقع أمام مدرستي تماما بالقري ، وباءت محاولاتي بالفشل في الحصول على هذا البيت.

(( شكوى من ارتفاع ايجار الفندق ))

** أما بخصوص الفندق الصغير الذي استأجره داود مع زميل له ومع مجموعة أخرى من المصريين كان ايجارالفرد في الشهر15 دينار، ولكن الطمع دفع داود وصاحبه ان يقدم شكوى الى هيئة مختصة لخفض سعر الفرد الى أقل من نصف دينار يوميا ، وبالفعل تم خفض ايجار  الفرد الى300 فلس أي ثلث دينار، هذه الحادثة جعلت الصورة المحترمة لصديقي داود تسقط  في نظري لأنه لم يعطي اعتبارا للعلاقات الطيبة بينه وبين صاحب الفندق والذي لم يكن في الحقيقة فندقا وانما بيتا به مميزات البيت المستقر .

** واعتقد أن الذي دفع داود الى ذلك التصرف ليس تخفيض الأجرة وانما هو طيبة ذلك الرجل واحساس داود بأنه  صاحب الفندق سوف يزعن بسهولة لقرار التخفيض . ولو كان صاحب الفندق من هؤلاء البلطجية المعروفين في مصر  لما تشجع داود أن يشكيه

** توقعت أن العلاقة يجب أن تسوء  بين صاحب الفندق والسكان ، توقعت ان يعاملهم معاملة رسمية ويمنع عنهم طهي الطعام بالفندق  أو يمنع عنهم دخول الفندق قبل الساعة الثانية عشر ظهرا

خفت ان اذهب اليهم حتى لا التقي بصاحب الفندق ولا أستطيع ان ارفع رأسي في وجهه

(( رد فعل صاحب الفندق ))

** تشجعت ذات يوم وذهبت الى داود في الفندق في أثناء الجو البارد وفجاة جاء صاحب الفندق كعادته ويسأل داود عن العباءة التي تركها في الغرفة فيعطيها له داود من فوق جسده لأنه كان يتغطى بها في هذه الليلة  ، يأخذها الرجل منه ولا يبدي أي ملحوظة  ويقابلنا بابتسامته المعهودة

** بعد فترة طويلة وأثناء النصف الثاني من السنة الدراسية أسمع ان صاحب الفندق قد أسر في الحرب العراقية الايرانية وعلمت أنه يبلغ من العمر أربعين سنه ولديه أولاد كبار.

** ليس مهما أن أذكر حادثة الأسر وما تؤديه الى تشتت أسرة عراقية بريئة المهم أنني لاحظت شخصا من سكان هذا الفندق مسرورا جدا لهذا الحدث  ويقول الحمد لله ان دعوتي استجابت وربنا ياخدهم كلهم

(( العزم على ترك الفندق وقبول السكن بالقرية ))

** عندما حصل داود عى ذلك الفندق الصغير الذي يسكن فيه سمعت بعض العبارات من زملاء الغرفة التي أسكن فيها " داود حصل على مكان لأنه كان بيحاول " ، اعتبرت أن هذا الكلام موجه الي بطريقة غير مباشرة لكي ابحث عن سكن آخر ، لم أكن منتظرا هذه الكلمة لكي أحاول البحث عن سكن فكنت أحاول بكل استطيع السكن في بيت ناظرية الزراعة لكن هذه الكلمة جعلتني ارتدي ملابسي وانزل  من الفندق كالمطرود  وأمشي في الشالرع بدون هدف .

** لم ألوم أحد على هذه العبارة لأنني مهما كنت أدفع ايجار الفندق  ومهما كنت أجاملهم فأنا دخيل عليهم وتسببت لهم في ضيق الغرفة التي يسكنها أربعة وهي لا تسع إلا اثنين على سريرين

** اتخذت قرار بيني وبين نفسي أن تكون هذه الليلة هي آخر ليلة معهم ولو كلفني الأمر الى الذهاب الى بغداد والعمل هناك بدلا من التدريس بالحصة

** لم يكن هناك حل إلا بقبول السكن بالغرفة التي قال عنها مدير المدرسة الابتدائية المجاورة لمدرستي بالقرية

** قابلت الاستاذ حسن وذهبت معه للاتفاق مع أحد الباعة لشراء سرير ومرتبة ومخدة وغطائين خفيفين لا يصلحان للجو الشتوي البارد ، تكلفت في هذا اليوم أكثر من عشرين دينار وعندما ذهبت الى القرية اتفقت مع أحد رجال القرية الذي كان يعمل حارسا في المدرسة والذي يمتلك سيارة نصف نقل على أن ينقل لي هذه الاشياء الى المسكن الجديد في القرية بداخل المدرسة الابتدائية للبنين وفي هذا اليوم حصل هذا السائق على مخالفة من رجال المرور عندما كان ينتظرني في مكان ممنوع الانتظار به ، فتركت له الفلوس مع المديرة حتى تعطيها له

** ذهبت الى الغرفة وساعدني الاستاذ حسن في اعدادها  وكلف بعض الطلاب بتنظيفها ، والى جانب السرير صممنا سرير آخر باستعمال سبورة مع بعض الصناديق وفرشنا هذا السرير بمساعدات بعض رجال القرية ، وبذلك أصبحت الغرفة بها مكانين لي وللاستاذ حسن يمكن له أن يبيت فيها في بعض الأيام

(( التعامل عن قرب مع الاستاذ / حسن ))

في الايام الأولى بات معي الاستاذ حسن حتى يشجعني على المبيت في هذا المكان الهادئ الذي يبدو مخيفا لأي شخص جديد فكانت الغرفة التس أسكنها تقع بداخل المدرسة والمدرسة حولها فناء وبها حديقة بها اشجار تبدو ذات أشكال غريبة في الليل  والحديقة حولها سور والسور بعيد عن مساكن القرية ، وكثيرا ما كان ينقطع التيار عند هبوب عاصفة في هذا الجو الشتوي

** كان الاستاذ حسن يفضل المبيت أياما كثيرة في هذا المكان الهادئ وسط القرية  لأنه بطبيعته يميل الى البساطة والطبيعة  وكان يفضل المبيت في ليلة الخميس حتى يستطيع أن يقابل الفتاة التي كان يرغب الزواج منها والتي أصبحت زوجته فيما بعد وكانت تسكن في قرية أخرى مجاورة تبعد حوالي خمسة كيلومتر

** وكثيرا ما كنا نتجول مسافات طويلة بالقرية  ويحكي عن محاولاته لخطبتها ومعارضة أهلها وخلال هذا التجول يحدثني عن عادات العراقيين في الزواج وأنه يلزم له ان يتوسط  لخطبتها شخص ( سيد ) أي من نسل الامام علي لأنها علوية ( من نسل الامام علي ) وأهلها يطلبون مهرا غاليا ، وكثيرا ما كان يحكي عنها أنها كانت من تلميذاته بالابتدائية  وأنها جميلة وذكية وتوافق على الزواج منه وأطلعني على رسائل منها تثبت ذكائها

كان يقول لي أنني لا احبها بقدر ما تحبني وكان يقول أن بنات العشائر أكثر اخلاصا في حبهم من بنات المدن

** لم يحكي لي في البداية عن زواجه الفاشل من احدى أقاربه ولكنه بعد أن اطمئن لي صارحني بأنه بذل كل ما يستطيع لارضاء زوجته الأولى ولكن لم يوفق وانتهت  العلاقة بالطلاق ، وحكى لي أنها شعرت بعقدة الذنب عندما ظلمته وانها بعثت في احدى المجلات مشكلتها التي ترتب عليها طلاقها

** عندما كان يشعر الاستاذ حسن بأن الفتاة التي يريدها أصبحت بعيدة عنه كان يستشيرني في أن يتزوج من غيرها

** كان لا يتنازل عن تحدثه باللهجة المصرية المكسرة وكان دائما يمتدح المصريين بصدق ولم يكن ذلك لأجل المجاملة لأنه استطاع أن يفهمني جيدا وأن يعرف أنني لا أميل الى عبارات المجاملة

** ومما كان يقوله عن المصريين أنهم نشيطين ويستطيعون الخروج من المآزق بالحيلة  أما عيوب المصريين هو الميل الى الضوضاء والصخب

** كانت له مقولة أتذكرها (انا لست مثل العراقيين وانت لست مثل المصريين وان كل منا له طباع خاصة)  

كان لتجوالنا عبر المسافات الطويلة  الفائدة في كسر حاجز التشكك والخوف  ، عرفت انه قد تم الخدمة العسكرية  من قبل الحرب واستدعوه لأكثر من مرة  ومن حسن حظه أن مواليد 1950 لم يطلبوا بعد

كان يعرف الكثير عن مصر رغم عدم ذهابه اليها ، وتعجبت الى آرائه عن سياسة الانفتاح والتي لها مساوئها أكثر من فوائد ها  ، ومن هذه الآراء لمست منه رجاحة في الفكر وعدم السطحية

ورغم أن سياسة العراق كانت معارضة لسياسة مصر إلا أنني كنت أجد من العراقيين من يؤيد سياسة مصر ولكن في الخفاء 

** عرفت بعد ذلك انه كان بالحزب الشيوعي عندما كانت العراق بها حرية تكوين الأحزاب ولكن بعد ذلك اصبح مستهدف من النظام الحاكم حيث أن النظام الحاكم لم يقبل المعارضات من اقصى اليمين ومن أقصى اليسار أيضا

** وكان يحكي عن نشاطه الحزبي ودوره في توزيع المنشورات من الصباح الباكر

وقال لي أن المدينة التي نعيش فيها كانت تسمى موسكو الصغيرة  لكثرة ما بها من شيوعيين وكان سبب ذلك  هو وجود الاقطاع في هذه المنطقة

ولكن بعد الاعتقالات والاعدامات أصبح في البلد حزب واحد فقط وهو حزب البعث العربي الاشتراكي . 

** وكان يحكي لي عن القرية التي نسكن ( آل حسن )  أنها لم تنشا مثل بقية القرى وانما نشاتها بدات بمجموعة مساكن العمال الزراعيين الذين يعملون في  المزرعة التي يمتلكها " خيون "  لذلك فإن أبناء القرية من مختلف الانساب  وليسوا مثل القرى الأخرى مثل قرية السادة المجاورة  والتي يرجع تاريخها الى زمن قديم  وهي تحتفظ بمكانتها الدينية  لوجود قبر السيد حمد وهو رجل صالح يتباركون من زيارة قبره ، و كان دائما يحكي عن مغامراته في أوروبا وتعلمه للرقص الغربي من المصريين هناك ... كان يقول لي ان المصريين يملأون كل مكان لدرجة انني تخيلت لو ذهبت الى الاسكيمو سأجد هناك مصريين

** حكى لي عن فترة عمله بالمحافظة الكردية مدرسا  باحدى مدارسها الابتدائية ... وكان يشيد بمعاملة الأكراد الحسنة له  رغم وجود الخلافات بين العرب والأكراد وقال لي أنه في احد الايام وجد طفلا في الابتدائية يكتب على السبورة عبارات فيها تحيز وتمرد وبها اسم أحد الزعماء الكرديين ، وكان الطفل متوقعا أن ينال العقاب على ذلك  ولكن الاستاذ حسن طمأنه وشجعه  لما وجده من روح الوطنية والاعتزاز بالنفس والقومية الكردية

** كان يشيد بالكتاب المصريين ومن أقواله أن مصر تكتب والعراق تقرأ ولبنان تطبع

** كان يبدي انسجامه من الاغاني المصرية وخاصة القديمة منها وهو يعتبرها أفضل من الأغاني اللبنانية والعراقية للتنوع في الألحان والايقاعات وبها تجديد وابتكار ، ولكنه كان أيضا يقدر الأغاني العراقية الشعبية باعتبارها تراث لابد أن يحترم ، أما الأفلام المصرية فقد كان يفضل عليها الأفلام الأجنبية

** عرفت بعد ذلك أن الاستاذ حسن رغم أنه من الحزب المعارض إلا أن أخته خريجة كلية العلوم والتي تعمل في مدرسة اعدادية كانت بعثية ، وله أخ خريج هندسة اعتقل لاتهامه بأنه في حزب الدعوة الموالي لايران ، وله اخ آخر كان مفقودا في الحرب ولكنه عرف بعد ذلك أنه ضمن الأسرى العراقيين في ايران، وله أخ آخر خريج كلية العلوم يعمل في فرنسا في مجال البحوث النووية تابعا لدولة العراق.

** ورغم تنوع ميولهم واتجاهاتهم إلا أنني كنت أشعر في بيت الاستاذ حسن بترابط عائلي شديد

كان أبو موظفا سابقا وهو الآن على المعاش وكان يحكي أن والدته كانت تقوم بخياطة الملابس بالاجر لكي تزيد من دخل الأسرة وكان يحكي عن رغبته في زيادة دخله حتى يتمكن من الزواج

** في البداية لم يبد لي الاستاذ حسن الاطمئنان الكامل لكي أذهب الى بيته بمدينة الشطرة فكان يقول لي أن منطقتهم بها رقابة شديدة على سلوك الناس  وسوف يراودهم الشك عندما يجدوني أستضيف شخص مصري ، وكان يقول لي أن سبب هذه الرقابة هو وجود أفراد ذوي المناصب العالية في الحزب يسكنون هناك

** لكن بعد أن اطمأن قلبه فبدأ يدعوني كثيرا الى بيته وأطلعني على الجيتار الذي اشتراه من يوغسلافيا فوجدته ناقصا في الاوتار وماكينة الشد تحتاج الى تغيير فوعدته بأن اشتري له الاشياء الناقصة من الجيتار من بغداد عندما أذهب يوم ما وحدث ذلك أن ذهبت الى بغداد واشتريت له ماكينة الشد من معرض الأرصدي حيث البائعة الجميلة بقسم الآلات الموسيقية و التي كنت أحب ان اسألها عن الأسعار والأنواع ، ولاحظت هذه البائعة أنني كنت كثير التردد عليها وعدم شرائي لجميع الأشياء مرة واحدة  وقالت لي واضح انك بتنسى كتير

(( بدء استعمال الجيتار ))

** عندما رجعت من بغداد قمت باصلاح الجيتار للاستاذ حسن وأعطيته الدروس الأولى في الموسيقى ووجدت عنده استجابة  وفهما للموسيقى واستعدادا للتعلم الاكاديمي لها

ازدادت الثقة بيننا وبدأنا نقضي أسعد الأيام في تبادل  المعلومات والأفكار فكان هو يوجهني الى طرق التدريس ويحببني في التدريس وكان يقضي الساعات بالليل يحضر الدروس التي سوف يشرحها  ويعد الصور والكروت المختلفة التي سوف يستخدمها في الشرح وما يخص اللغة الانجليزية كما كان يعد مجسمات حقيقية يستخدمها مثل كوب صينية ملعقة سكينة شاي سكر ، وما شابه ذلك وكان أحيانا يسألني عن معاني بعض الكلمات التي لا يعرفها الموجودة في دليل لمعلم  للغة الانجليزية ، وكان يعيب على كثير من المدرسين لعدم اطلاعهم على كتب دليل المعلم

** كان صبورا لدرجة كبيرة مع طالبات المتوسطة أن مستواهن كان ضعيف في مادتي اللغة الانجليزية والرياضيات  وكان يعزي هذا الضعف الى اهمال مدرسات الابتدائي في مدارس القرى  والى انشغال الطالبات في الأعمال المنزلية أو رعي المواشي أو جمع الحطب وخلافه

كنت أندهش واتعجب لصبره الشديد عندما يحاول تفهيم أحد الطلاب الضعاف جدا  الذي يأتي له في الليل بالغرفة لكي يشرح له ( بدون مقابل ) ، ولم الاحظ انه كان عنيفا في الضرب ورغم ذلك كان الطلاب يحبونه ويستجيبون له عندما يأمرهم بالسكوت

** أحيانا كنت أشاهده وهو يعلم أطفال الصف الأول الابتدائي مادة العلوم فكان يرسم لهم بالطباشير الملون وكان يستخدم التصفيق والحركات التي كادت تكون مثل الرقص

كنت أطرب لطريقته في الشرح واشاهده كما لو كنت اشاهد تمثيلية تليفزيونية ، فأجده أحيانا يوجه الطفل المخطئ الى الصواب بطريقة فكاهية

** كان يعبر عن أهدافه في التعليم وهي تعويد التلاميذ على سلوكيات التعاون والمحبة واحترام الآخر

وفي احد المواقف وجدته ينظم فريقين للعب كرة االقدم وعندما وجد أن الفريقين يمثلان قريتين فأعاد تقسيم الفريقين  بناء على فكرة عدم تعويدهم على التعصب

** كما وجدته أنه كان ينهر أحد التلاميذ لأنه يفتن على زميله وكان يقول لي أن هذا العيب ليس من صفة العراقيين ولكنه نظام فرضته عليهم الانظمة الحاكمة

** كان شديد الملاحظة لسلوك الطلاب في خارج الفصل  ففي أحد الأيام عندما كان يدرس أحد الدروس الاضافية ( بدون أجر ) قال للطلاب اذهبوا الى غرفة المدير وانتظروني هناك لكي أحضر لكم  ، فعندما ذهب وجد الطلاب كل منهم يجلس في مكان معين فهذا ابن مسئول الحزب الكبير جلس على مكتب المدير ، وهذا ابن المدرس يتخذ مكانا متواضعا وابن الفراش يتخذ مكانا بجوار الباب  بعد ذلك جاء ليحكي لي عن مشاهدته التي لاحظها في ذلك اليوم  لكي يوضح لي تأثير صفات الوالدين على أبنائهم .

تمضي الأيام والأسابيع والشهور سريعة ... واجازة نصف السنة على وشك الاقتراب ... ومازلت أعمل محاضرا ( مدرس بالأجر ) ولم يأتي الأمر الوزاري بتعييني مدرسا بمرتب ثابت

ولم أحول أي مبلغ على حسابي بمصر لكي تطمئن اسرتي

** يعرض علي مدرسات الابتدائي أن أدرس مادة اللغة الانجليزية في مدرستهم حتى أسد العجز عندهم ، لكني أرفض خوفا من المسئولية لأنني كنت أجد التدريس للمرحلة الابتدائية من أشق المسئوليات ، والدليل على ذلك هو المستوى الضعيف  للطالبات  اللاتي ادرس لهن في المدرسة المتوسطة والذي لا يرجع إلا لاهمال من المدرسات في المدرسة الابتدائية للبنات  وعدم التزامهم بطرق التدريس الصحيحة في بعض المواد

اضطرت مديرة المدرسة الابتدائية الى أن تقوم هي بتدريس اللغة الانجليزية  رغم اعترافها بعدم كفاءتها لتدريس الانجليزية

رفضت أيضا تدريس التربية الدينية في المدرسة المتوسطة ( الاعدادية ) خوفا من اضطراري الى الوصول الى مآزق حرجة نتيجة الاختلاف بين المذاهب ، واذا بالغت في الاهتمام بهذه المادة  ربما يعتبرونني مثل خميني يحرض على ثورة إسلامية .

** رفضت تدريس مادة التاريخ بسبب ايماني بعدم قدرتي على تدريس هذه المادة بكفاءة ولعدم وجود الذاكرة القوية التي تمكنني من سرد الحكايات والأحداث الغير مترابطة ، كنت أفضل تدريس الجغرافيا لوجود رباط عام وقانون عام لهذه المادة وتشبه في ذلك العلوم الطبيعية

** رفضت تدريس التاريخ والدين أيضا لعدم رغبتي في مخالفة قوانين المدارس العامة  والتي تنص على توزيع الحصص المتكافئ بين المدرسين ، ، كان ذلك رغم أن مخالفة القوانين لم تكن مسئوليتي وانما مسئولية مديرة المدرسة .

رفضت تدريس كل هذه المواد  رغم حاجتي الماسة الى الفلوس

كنت راضيا على  المبلغ القليل الذي اتقاضاه  عن ال19 محاضرة في الاسبوع أي 19 دينار اسبوعيا

اعتبرت أن هذا المبلغ أفضل كثيرا مما لو اشتغلت في مصر  وحمدت الله على استقراري في هذا المكان الآمن بين هؤلاء الناس الطيبين في القرية

** كنت أذهب كل جمعة لكي أتسوق من سوق الشطرة فاشتري بعض المعلبات والخضروات ولكي آخذ الرسائل  التي تصلني على فندق الزهراء ولكي أرسل الرسائل الى البريد ، وكنت أحرص على التقليل من فترة تقابلي مع زملائي المصريين حتى لا أدخل في دوامات في الحديث عن التحويل والفلوس والشكاوى والمشاكل المصطنعة والأكاذيب والاشاعات المختلفة التي كل منها لا يؤدي إلا لمزيد من حالات القلق والتوتر

(( أحداث مؤسفة ))

** رغم ضيق هذه الفترة التي كنت أقضيها مع الزملاء المصريين في يوم الجمعة إلا أن أذني كانت تلتقط أحداث مخجلة ، فأسمع أن مصري مسيحي يطلب زيادة حصصه بتدريس الدين الاسلامي ومدرس لغة عربية يعمل في مصنع بلاط ويأتي له أحد طلابه في الورشة لكي يطلب منه شغل ، وأن شخصا كان يعمل في ايطاليا وصرف كل أمواله هناك ثم جاء ليعمل عملا شريفا بالعراق ثم يقترض أموالا من المصريين والعراقيين ويهرب الى حيث لا يدري أحد ، وعندما طلب مني أحد الزملاء أن اقرضه مالا لتحويله الى أهله رفضت قائلا وانني أيضا أريد أن احول مبلغ الى اهلي وافضل الصبر لحين فرج الله ، وعندما قلت ذلك لاحظت غضبا غير عاديا ، كان ذلك بالتأكيد ليس للرفض وانما لأنني جاوبته بصراحة بدون مجاملة وبدون العبارات المستهلكة التي يبدعها المصريين وخاصة الريفيين

** ورغم ذلك كنت مضطر في كثير من الاحيان أن استخدم بعض عبارات المجاملة المستهلكة من أجل انهاء الوقت بسلام والعودة الى قريتي حيث البساطة والوضوح وكنت ألاحظ استقبال كثير من أهل القرية عند عودتي بحميمية افتقدتها خلال لقائي مع الزملاء المصريين .

** كان للعراقيين بعض كلمات المجاملة الشائعة أيضا لكنني كنت أشعر فيها بصدق واضح ، وعلى سبيل المثال كلمة ( أخاف أكون سويت لك شيء مو زين ) أي ( أخاف أكون أغضبتك ) كنت ألاحظ منهم احساس بالندم وقد يكون له علاقة بعقيدتهم .

** ورغم كثير من المواقف الانسانية يبديها كثير من العراقيين تجاه المصريين إلا أنني نادرا ما كنت أجد اعترافا من المصريين بذلك

(( ممارسة الموسيقى بالمدرسة ))

**  ومما جعل راحتي تكتمل في القرية أن الاستاذ حسن أتى بالجيتار الخاص به وتركه معي بالغرفة لكي أقوم بتعليمه الموسيقى ، ولكنه لم يستمر معي في التعلم فأصبح الجيتار في حيازتي اقوم بالعزف عليه أوقات الفراغ واحفظ الأغاني العراقية عليه والنشيد القومي لهم وأحصل على نوت موسيقية ودليل معلم التربية الموسيقية  وأقوم بتحفيظ البنات بعض الأغاني ،كما كنت أيضا اقوم بتحفيظ الأولاد في مدرسة البنين الابتدائية بدون مقابل وأمارس عمل مدرس الموسيقى ، وكان قدوتي هو الاستاذ / اسماعيل صديق - رحمه الله – مدرس الموسيقى بالمرحلة الابتدائية بمدرسة النهضة النوبية بالاسكندرية ، وكنت احفظهم بعض الأغاني التي حفظتها في طفولتي مع تغيير بعض الكلمات

فمثلا أغنية مدرستي ماحلاها انا قلبي يهواها ، بدلت كلمة ( مدرستي علشانها حبيت التعليم)  بـ (مدرستي على مودها حبيت التعليم ) وما شابه ذلك بحيث لا تخل باللحن الذي كنت أعتبره أمانة تركها الملحن اسماعيل صديق

وكان يسعدني كثيرا أثناء تجوالي مع الاستاذ حسن بالقرية أن الأطفال يقولون لي أهلا استاذ علاء ويرددون الأغاني التي كنت أحفظها لهم ، وفي أحد المرات قال لي الاستاذ حسن أن الاولاد  يرحبون بك ويتجاهلوني 

وصلت شهرتي ايضا كمعلم موسيقى الى بعض المدارس بالقرى المجاورة حتى لاحظت يوما أن طالبة بمدرسة في مدينة الشطرة تقول لها أن أحد المدرسين قال لهم أن بقرية آل حسن مدرس موسيقى .

** ولاحظت ذات مرة أن أحد الطلاب طلب مني صورة شخصية وعلقها في بيته

** وكنت أحاول رد جمايلهم بالعزومات وخلافه بأن أصورهم بكاميرتي وأعطي لهم الصور بدون مقابل في كثير من الأحيان أما بالحفلات فكنت آخذ ثمن الصور ، ومن الغرائب في هذا الشأن أنني لم اضطر يوما إلى طلب ثمن الصور بل أن بعضهم كان يعطيني ثمن الصور بعد شهرين أو أكثر من استلامها بدون أن ينسى أو يتناسى .

** ومن الايجابيات التي لاحظتها هي أن كلماتهم القليلة كانت مركزة وقاطعة وقليلا ما يستخدمون عبارات لا فائدة منها .

** أتذكر أنني سمعت أحد العراقيين يلوم سائقه المصري على الخطأ الي أدى الى انزلاق سيارته في الطين فيقول له مامعناه ( عندما حصل كذا كان الواجب عليك عمل كذا ) فيرد عليه السائق المصري ( انتو ما بتعرفوش ربنا  ربنا هو اللي أراد كدا متعرفوش القضاء والقدر )  فيرد عليه صاحب السيارة ( نعم ادري بالقضاء والقدر لكن الله أعطانا عقل )  عند ذلك وجدت مجموعة من المصريين  يتجمعون ويقول كل منهم كلمات لافائدة منها في التهدئة ، وتدخل البعض وتم رفع السيارة من الطين

** من الصفات السيئة التي لاحظتها عند المصريين دون غيرهم الالحاح الشديد والثرثرة بكلام لا جدوى منه ، ومن مظاهر هذا الالحاح مانجده في تناول السجائر ( اتفضل – لا شكرا – ياعم اتفضل – لا مابدخنش  – ياعم عفر ) وعزومات المراكبية الكثيرة   .

** أما العراقيين فكنت الاحظ ما يلي ( اتفضل – شكرا ) وكثيرا ما تكون العزومة والرفض بواسطة ايماءات فقط  بدون كلمات

** عندما لاحظت ذلك أصبحت أخجل كثيرا من الاطالة في عبارات الشكر عند دعوة أحدهم لي على تناول الطعام ، كان الرد بكلمة شكر أو اعتذار أو ايجاب

(( شكرا ))

** في أحد الأيام أثناء نومي غطاني الاستاذ حسن عندما لاحظ ان الغطاء قد ازيح عني  فقلت له شكر ، فقال لي وليه تشكرني ؟ ، هي واحدة بواحدة لأني لو كنت عاريا انت حتغطيني .

** في أحد الأيام الباردة والممطرة دعانا أحد القرويين لتناول الطعام وعندما نشكره يقول لنا ما معناه أنا ما فعلت شيء ، هذا أكل مال مطر أي أنه واجب علينا نتيجة ظروف المطر .

** ذات يوم قال لي الاستاذ حسن أريد تحفيظي عدد كبير من الأغاني لكي أحفظها للأولاد في العام القادم  ، ثم يتوقف عن الكلام  ويقول ربما أدخل الجيش وأكون ميتا في العام القادم ، وهكذا كان حال العراقيين في هذه الفترة فقد قالت لي احدى المعلمات أنني كنت أتمنى أن اهرب انا وعائلتي والآن أصبحت أتمنى الهرب مع أسرتي فقط  .

** ظل الماء مقطوعا فترة طويلة عن القرية وكنا نحصل في هذه الفترة على الماء النظيف من الجيران بالقرية ونغليه ثم نبرده حتى يكون صالحا للشرب وعندما لاحظ أحد القرويين أننا نغلي الماء فقال لهم الاستاذ حسن احنا أهل المدينة معدتنا تعبانة لا تتحمل شرب الماء مباشرة من النهر . وكان ذلك  من وجهة نظره حتى لا يظهر لهم أننا نتعالى عليهم  أو نعدل على عاداتهم

(( تعلم ركوب العجل ))

** كنا يوميا في العصر بعد انتهاء اليوم المدرسي المسائي نتجول بعيدا عن مساكن القرية حيث الأراضي المنبسطة الرسوبية  الواسعة والتي تدل في استوائها المنتظم على أنها كانت مغطاة بالماء وبعد انحسار الماء عنها ظهرت بهذا الاستواء وفي هذه الارض المستوية تعلمت ركوب العجل  باستعمال عجل تلاميذ القرية

** وفي أماكن أخرى كنت أجد زراعات القمح والشعير وكنا نقشر الحبات الخضراء ونأكلها مثل اللب

** وخلال هذه الجولات لاحظت بعض الطلاب يرعون الغنم ، ومنهم حدى طالبات المتوسطة تقوم بالرعي وتذاكر أثناء عملها ، وأثناء مقابلة احد الطلاب الذي يرعى الغنم ترك أغنامه وأقبل علينها ليصافحنا فقلت له ما معناه الحق الغنم ماشية لوحدها  فقال لي لا ان الكلب معاهم .

** كنت ألاحظ أن راعي الغنم ملابسه بيضاء ناصعة لاتوجد بها اية من البقع

(( تأملات في الحياة الريفية ))

** لاحظت أن الفلاح يستخدم المسحاة وهي بديل الفأس عندنا ، وهي مثل الجاروف ملحق به خشبة بالعرض لكي يدوس عليها الفلاح لكي يقطع بها الأرض ويقلبها وبذلك فهو يستعمل كل من يديه ورجليه أثناء الحرث ، ولاحظت أنه يقوم بالحرث بهذه الطريقة بانتظام كما لو كان يشتغل تريكو ، وفي احدى الرقصات الشعبية العراقية لاحظت حركات مستوحاه من حركة الفلاح أثناء حرث الأرض .

** لاحظت عربات كارو بدائية تبدو وكأنها في العصور القديمة جدا

** لاحظت في المياه الهادئة أسماك صغيرة وطحالب وضفادع وسلاحف مائية كثيرة كانت تهلك من كثرتها عندما لا تسعفها حركتها للهروب الى الماء

كما لاحظت أرانب برية تركض وسط الحشائش البرية وعندما لمحت أحد الأولاد يمسك بأحد الأرانب البرية الصغيرة أخذته منه لكي اربيه  لكنه لم يعيش إلا يومين مات بعدهما

** بالاضافة الى كثير من الطيور البرية التي تتواجد بكثرة بجوار الانهار ( الترع ) ومنها اللقلق  والنورس والهدهد والبلبل وبعض الطيور الملونة ودجاج العرب وهو يشبه الدجاج البلدي لكنه أكبر حجما .

** لاحظت أعدادا كبيرة من الحمير التي لا تستخدم إلا في أعمال قليلة وصغار الحمير تلعب بحريتها

أثناء السير في الصباح الباكر كنت ألاحظ السلاحف المائية وهي خارجة من الماء على ضفاف الترعة لتستمتع بشمس الصباح وكلما أقترب منها أجدها تقفز مسرعة الى الترعة وتختفي وكانت تحدث صوت تكتكات مستمرة أثناء قفزات الأعداد الكبيرة من السلاحف

وعندما يقترب الغروب أسمع صوت الواوي ( وهي حيوانات من فصيلة الذئاب )

وتعلمت تمييز آثار الاقدام للأغنام والبقر وكذلك الخنازير البرية التي كان يخاف منها أهل القرية كخوفهم من الذئاب

والضفادع الكثيرة التي كان الأولاد يخافون من مسكها اعتقادا بأنها تصيب بالامراض الجلدية

(( حكايات في السياسة ))

** وأثناء الحديث مع الاستاذ حسن صرح لي في أحد المرات أن العراقيين في بداية ثورة خوميني كانوا مؤيدين لهذه الثورة لدرجة انهم كانوا يعلقون صور خميني في منازلهم ولكن النظام البعثي لم يسمح بذلك ، وان الأسباب الحقيقية للحرب ليس نزاع على أرض أو خلافه وانما لأسباب خاصة بالسياسة ونظام الحكم .

وفي أحاديث أخرى عندما أعترض الاستاذ حسن على فكرة الاشتراكية والشيوعية التي تسلب حق الانسان في الامتلاك ، كان يرد بكل حماس بأن الدول الأوروبية الشرقية مثل بلغاريا وغيرها بها أجمل مصايف وأن الحياة فيها  مريحة وكل الاحتياجات متوفرة للانسان العادي.

** في الايام الأولى لسكني في القرية بدأت الدعوات لتناول الغذاء أو العشاء أو الشاي عند بعض سكان القرية ولم ألاحظ اندفاعا من هذه الدعوات غير أنها كانت واجب الضيافة ، بل أن معظم الدعوات من أشخاص لا علاقة لهم بالمدرسة  ، ولم أجد حرجا من تناول الطعام عندهم وبصحبة الاستاذ حسن وقد يكون السبب هو عدم الالحاح الكثير وعدم المبالغات في عبارات الترحيب والتفخيم ووصول الاحساس بأنهم لا يؤدون إلا واجبا عليهم تجاه ضيف على قريتهم

(( تشابه وجهات النظر مع الاستاذ / حسن ))

**وكثيرا ما كنا نتبادل الحديث أنا والاستاذ حسن في أمور كثيرة ولاحظت أننا نلتقي في وجهات نظر كثيرة رغم الاختلاف بين السنة والشيعة ، فكنا نعتبر أن الدين  يحدد لنا المبادئ العامة للتعامل والعبادات وعلينا ألا نجعل الاختلافات في الفرعيات سببا في خلق العداوات والصراعات .

** كما كنا نتفق في أن أمورا كثيرا مثل الأبراج والمنجمين ليست إلا خرافات لا علاقة لها بالواقع ، وعلى سبيل الضحك كان يقول لي أن جميع المنجمات وقارئات الكف والفنجان يقولن ( قدامك طريق طويل وأكو عزول ) .

(( حسين الراضي ))

** وفي أحد الايام وأثناء مبيتي بمفردي بالغرفة وعندما انقطع التيار نتيجة العواصف والأمطار وجدت حارس المدرسة ( حسين الراضي ) يأتي لي بزجاجة بها كيروسين وبها فتيلة مشتعلة ليعرضها علي لاستعمالها في الانارة ولكني شكرته على ذلك وقلت له أنني أستعمل الشمع أسهل منها ولكني ندمت يعد ذلك عندما وجدته يخرج بها ، كان من الواجب تقبلها حتى ولو أنني لا استعملها

** كان هذا الحارس يأتي يوميا للاطمئنان على أحوالي في السكن ، ومن أحاديثه أن القرية آمنة أكثر من ذي قبل ، وعرض علي بندقيته ذات الماسورتين لكي أستعملها في صيد البط

يوم آخر يأتي  الحارس كعادته للاطمئنان والتسامر معي بعض الوقت  ولكني في هذا اليوم تظاهرت بالنوم ولم استجيب لطرقاته الخفيفة على الباب ، ويبدو انه غادر المكان ولم يكرر طرقاته على الباب خوفا من ازعاجي

شعرت ايضا في هذا اليوم بتأنيب الضمير وخاصة عندما وجدته يطرق الباب بكل هدوء ولم يكرر طرقاته خوفا من ازعاجي .

** عرفت بعد ذلك أن هذا الشخص ( حسين الراضي)  متزوج ولم ينجب أطفالا  وأنه دائما يشكو من كثرة زياراته للطبيب في مدينة الناصرية  .

وكان حسين الراضي له أولاد اخ صغار أحدهما اسمه رسول  بالصف الأول الابتدائي والآخر اسمه صدام  وعمره لم يتعدى الأربع سنوات كان هذا الرجل مهتما بهذين الطفلين كأنهم أولاده  ودائما يتبعانه في الطريق كرقم واحد وبجواره صفران .

وعندما أقول للطفل صدام ما اسمك يقول صدام حسين نسبة إلى عمه ( حسين )

** كالن هذا الرجل يأتي يوميا في الصباح  بالخبز البلدي  الطازج بدون أن أتفق معه  وفي اليوم الذي لا يستطبع المجيء فيه يرسل أحد أطفال أخيه رسول أو صدام  واذا لم يكن أي منهما موجودا  يرسل الي ّأخاه أبو رسول  والذي كان يأتي في الصباح الباكر بملابسه العسكرية حاملا الخبز وأدعوه لتناول الافطار أو لكي يستريح أجده يشكرني وينصرف بسرعة كما لو كان قادما لتأدية واجبا عسكريا .

لم تكن من عاداتهم كثرة الكلام ، فعندما كان يأتي أحد أبناء القرية لزيارتي أجده صامتا حتى أبدأ أنا بالحديث فأقول له ايش لونك ... ألله بالخير  وغير ذلك من عبارات الترحيب كي ينفك لسانه حتى أعرف ما بداخله وعندما يتحدث الشخص أبدأ أنا بالسكوت للانصات الى كل كلمة يقولها  فأجد كلامه منظما ومركزا ليس محشوا بعبارات مالئة

(( مع شباب القرية ))

** كان يأتي الي كثير من شباب القرية عصرا أو في أيام الأجازات للتسامر معي وللعب الشطرنج أو استماع الأغاني الذي أحفظها على الجيتار أو لتبادل أشرطة التسجيل والاسمتاع للاغاني الريفية العراقية والمقامات العراقية كما يسمونها ومنهم من كان يردد الأغاني المصرية والعراقية ومنهم من ينقد الغناء .

** لاحظت أنهم على درجة كبيرة من تذوق الموسيقى والأغاني ، ومنهم من كان يصحح لي عزف بعض الأغاني  التي تحتاج الى ربع تون والتي لا يمكن عزفها جيدا على الجيتار

** من الآراء التي استمعتها أن فلان يصيح ولا يغتي  ، أن فلان يغني من زوره ، أن فلان يغتي من أنفه

** آراء بسيطة ولكنها كانت تدل على احساس فطري جيد رغم عدم الدراسة .

** كنت ألاحظ هدوءا في طباعهم وحزنا في أغانيهم وكان يظهر ذلك ايضا من أحاديثهم ولهجتهم وعلى سبيل المثال  : هلا عيني هلا قلبي ، يابعد عيني ، خطية هذا الولد ، بكيفك ، براحتك .

** لم ألاحظ العنف الشديد والترقب والتحفز

** كنت ألاحظ أنهم يغطون حيواناتهم بالخيش لحمايتهم من البرد أو من حرارة الشمس

** وعند السؤال عن أحوالهم يردون بدقة ولا يكتفون بكلمة الحمد الله مثلما تعودت من المصريين بل يردون بكلمة زين ، أو ، موزين ، أو عالنص ، تعبان .

(( تأملات في اللهجة العراقية ))

** وبالتعمق في لهجتهم لاحظت أسماء الإشارة التالية

هذا : للمفرد المذكر القريب   ،                     ذول : للجمع المذكر القريب

ذاك : للمفرد المذكر البعيد    ،                     ذولاك : للجمع المذكر البعيد

هاي أو هادي: للمفرد المؤنث القريب             ذنّي  : للجمع المؤنث القريب

ذيش : للمفرد المؤنث البعيد     ،                  ذنيش   : للجمع المؤنث البعيد

ولاحظت أيضا أنهم أكثر دقة في نطق الكلمات الانجليزية ولم يدخلوا عليها تحريفات كثيرة كما يحدث في مصر وعلى سبيل المثال bisicle    pottle   glass    Jam   heater

لم الاحظ الكلمات التي ترجع الى الفرنسية كما في مصر

** في الأوقات التي لم يكن بها الاستاذ حسن كنت أخلو الى نفسي مع الجيتار أقوم بنقل المقطوعات من النوتات الموسيقية أو نقلها عن طريق الاستماع ، كنت أسجل صوتي أثناء الغناء حتى أستطيع أن أسمع أخطائي جيدا ، وكثيرا ما كان يأتي من أهل القرية بعض الشباب كنت أخرج معهم للتجول بين الزراعات أو بين الحشائش الطبيعية ، ولاحظت أقراص الجلة مرصصة باتقان وليست مبعثرة .

وعند دخولي لكثير من المنازل لم أجد روائح كريهة ولم أجد خيوطا للعنكبوت ، وأخشاب الوقود ايضا كانت مرصصة وليست مبعثرة .

** كنت استمتع كثيرا لرؤية بيت ريفي من الطوب الني بلا شقوق وبها زخارف بسيطة وتلقائية نادرة مكتملة لا تقبل النقد وتمنيت أن يرى هذه المناظر دارسي الفنون والمهتمين بها .

**وأحيانا اترك الجيتار وأخرج بمقعدي الى حديقة المدرسة  لقراءة كتاب أو مجلة ويقع بصري على العصافير التي هي صاحبة الصوت الوحيد في هذا المكان فأذهب الى الغرفة وأعد لها طعاما من الخبز المبلول واضع هذا الطعام في أماكن تحت بصري وأدخل الى الغرفة لمراقبة العصافير وهي تتجمع نحوالطعام وتأكله وتتخاطفه ومنها ما هو عنيد ولا يقبل منافس على الغذاء ومنها ما هو يهرب من أقل اعتداء .

(( دعوات على العشاء ))

** ومن الأشخاص الذين دعوني على تناول العشاء في بداية السكن هو ( جبار ) وهو زوج العاملة أم عبد الله  والتي تعمل بمدرستي كان جبار في ذلك الوقت طالبا في آخر سنة  بمدرسة الزراعة وسنه 21 سنة  لكن زوجته كبيرة في السن ولها ابن وبنت من زوج متوفي ، كان لجبار أيضا أخت في مدرستي وبنت زوجته في مدرستي ايضا ، واثناء مشاهدتي للتليفزيون عندهم كانت تجلس بنت زوجته (تلميذتي) بحياء شديد .

** ورغم حرصي الشديد على التعامل عن بعد  إلا أنني كنت أطمئن تماما لهذا الشخص لدرجة كبيرة لما وجدت فيه من صدق ، ووصل الأمر الى درجة أنه عرض علي أن تقوم زوجته بغسل ملابسي ولكني لم أوافق ، وكان يعرض علي ان أتزوج من القرية ظننت بهذا العرض أنه يمزح ولكنني وجدته فيما بعد يتكلم بجدية وقال لي أن أهل القرية قد اطمأنوا اليك ويسعدهم الارتباط بك ويتمنون أن يسافروا معك الى مصر  .

** وكثيرا ما كان جبار يبعث الي الماء الذي تملأه بنت زوجته من النهر وكان يقول لي أنها تأتي بالماء من مكان بعيد حتى يكون نظيفا .

** أذكر أنني بالتحدث الى بعض الأطفال ان أحدهم قال لي أنني أخاف من المصريين لكنني لا أخاف منك ، وأحدهم يقول لي ( انت وين أهلك ) فأقول له في مصر يقول لي ( مصر أبعد من الشطرة ؟ ) فقد كان هذا الطفل بالتأكيد يعرف ان ابعد مسافة يعرفها هي مدينة الشطرة التي تبعد 10 كيلومتر عن القرية .

** كنت أتمنى ان اقضي معهم طول هذه السنة حتى ولو لم اتعين بمرتب ثابت

** ومن رجال القرية هو ابو فاضل هو حارس بيت ناظرية الزراعة الذي كنت اسعى للسكن فيه ، دعانا هذا الرجل أكثر من مرة للعشاء  وهناك كنا نقضي في بيته الريفي وقتا ممتعا في التحدث اليه

** أعجبني في هذا البيت نظافته وترتيبه رغم أنه مصنوع من الطين ، لم ألاحظ تراب على الأرض والسجاد نظيف وكذلك الحوائط ، وفي أثناء مرضه ذهبنا لزيارته وعند السؤال عن صحته أعطانا الأوراق المسجل فيها العلاج والأدوية بكل هدوء وقال ما معناه أنا تعبت من كتر الكلام خذوا الورق واقروه انتو متعلمين

** وعندما توفى هذا الرجل في هذا العام تأثرت لفراقه لأنني اعتدت كثيرا أن اشاهده بجوار منزله

** كان الاستاذ حسن هو المرشد والمرافق لي في أكثر المواقف والزيارات ، فعن طريقه تعلمت طرق تأدية التحية في المناسبات المختلفة وعرفت أنه لابد من هز فنجان القهوة تعبيرا عن الاكتفاء وعدم طلب المزيد . ، وعرفت منه أن الماشي يلقي السلام على الواقف ، والصاعد يلفي السلام على النازل .... وكثير من القواعد والتقاليد  بهذا الشأن .

** وفي هذه الفترة تكاسلت في بعض أيام الجمعة عن الذهاب الى مدينة الشطرة للتسوق و لمعرفة الأخبار الجديدة من الزملاء بفندق الزهراء واستقبال الرسائل واعتمدت على الاستاذ حسن أن يقوم بهذه المهام ، واعتمدت أيضا على الاستاذة / ساهرة لارسال بعض الرسائل عن طريقة المدينة،  وعرض الاستاذ حسن أن يشاركني في بعض المصروفات الخاصة بالغذاء لكنني رفضت فضلت أن اتعامل معه في حدود الضيف وليس الشريك حتى لا تحدث أي مشكلات ، واضطر الاستاذ حسن أن يأتي بطعام  مثل الطبيخ والمحشي والكبة والكليتشة ( معمولة )  وغير ذلك من المأكولات الشعبية التي تعودت عليها بالتدريج  .

** وأعجبني فيه أنه كان يأتي بهذه الاطعمة في علاقة ( كيسة بلاستيك ) وأنه لايحرج من حمل هذه العلاقة ، وتشجعت أنا أيضا أن اقلده وأحضر الى المدرسة احيانا بعلاقة بها بعض الاشياء ، بالرغم أن بعض الزملاء المصريين كانوا يعيبون علي ذلك ، وسمعت أحدهم يقول انت رايح المدرسة ولا رايح الغيط ؟!

** تعلمت ألا أعبأ بأقوال السخرية لأنني وجدت  بعض المديرين العراقيين يأتي بالعجلة ، وفي ذات مرة تعجبت لمدير المدرسة الابتدائية  يأتي بسيارة تاكسي رغم أن لديه سيارة ملاكي ، وعندما بحثت عن السبب علمت أن هذا المدير كان واقفا مع المعلمات لركوب هذا التاكسي وعندما تأخر صاحب التاكسي قاد السيارة بنفسه حتى لا يتأخر عن ميعاد المدرسة

** كانت أيضا مديرة المدرسة تقول في كثير من المواقف أنا فلاحة قبل أن أكون مديرة ، وفي احدى المناسبات وأثناء توزيع الطوفي قالت لي خذ هواية ( كمية كبيرة ) ولا تاخذ واحدة مثل  أهل المدينة .  

** وفي احدى الحوارات قلت للمديرة : لماذا ترتدين الاسود قالت لي كلمة أثارت فكري : انني احب ارتداء الاسود لأنني أشعر بارتدائه أن شخصيتي متكاملة عندما البس هذا اللون .

وعلمت أن المديرة تمر بمشكلة اجتماعية ادت الى انفصالها عن زوجها

** ولم يكن الاستاذ حسن أحسن حالا بل كان له أخ مفقود في الحرب لم يعرفوا انه أسير إلا في نهاية السنة الدراسية الأولى كما كان له أخ معتقل لا أحد سعرف عنه أخبار ، كما أن الاستاذ حسن مضطهد لأنه غير مشترك بحزب البعث ومهدد بالقبض عليه ، أو الحاقه بالجندية ، وكان يعبر لي دائما عن رغبته في الهرب من العراق عن طريق الكويت أو سوريا أو الهرب الى منطقة الأهوار وهي بحيرات ضحلة يهرب اليها الفارين من الأحكام وما شابه ذلك ، وكان ابوه دائما مريضا ، وكانت له تجربة زواج سابقة فاشلة جعلته يفضل الزواج من الريف

** ورغم كل هذه الظروف الصعبة إلا أنني لم أجد تأثيرا لها على عمله فكان يعطي عمله حقه وأكثر  فقد كان يحرص على الاستعانة بدليل المعلم  وينفذ تعليماته حرفيا ، كما كان يقوم بتدريس حصص اضافية للضعاف بدون مقابل ، ويتعامل مع الصغار بطريقة اللعب

** وكان يهتم بتدوين ملاحظات على التلاميذ  بدقة على البطاقات المدرسية

** وأعجبني ايضا فكرة تسجيل الملاحظات بدقة عندما وجدت احدى المعلمات تسأل التلميذ عن خصوصيات لكي تسجلها في البطاقة المدرسية

(( الاطلاع على سجل المدرسة الابتدائية ))

** اطلعني ذات يوم الاستاذ حسن على سجل التلاميذ بالمدرسة مدون به بيانات تفصيلية عن مديرة المدرسة التي نعمل بها عندما كانت طفلة في المدرسة والسجل كان سليم كما لو كانت الطالبة مقيدة حديثا وكانت الصورة ملصقة به بطريقة متقنة حيث يلصق الجزء الحساس من الصورة فقط حتى لا يعطي سمكا للسجل نتيجة كثرة الصور .

** كما أطلعني من خلال سجل مدرسته الابتدائية عن أشخاص تخرجوا وعملوا في وظائف مرموق فيما بعد ، ومنهم من فر الى الخارج ومنهم من في المعتقل ، وكانت كلمة ( جوا ) تعني أنه معتقل

** من الصفات الحسنة عند هذا الشخص أنه كان يحسن الاصغاء ويحترم كلام الآخر فعندما ينقطع الحديث لأي سبب كان يبدأ بآخر كلمة قطعت من الحديث ،

(( بالورقة والقلم ))

** كان يصرح لي أنه قبل أي اجتماع أو أي مناسبة يستخدم الورقة والقلم لدرجة أنه كان يقول لي أنه يحضر النكات التي سوف يقولها أيضا ، وكان يقول لي أنه يحب اثارة الحديث حول أي كتاب يقراه حتى تثبت قراءته في ذاكرته .

** أعجبتني كل هذه الأفكار والآراء وشعرت انه نسخة طبق الأصل من آرائي

** وفي الحقيقة أن غالبية العراقيين الذين عرفتهم عرفت عنهم ظروفا صعبة ولم يحكوها لي إلا نتيجة شدة معاناتهم واحساسهم بالأمان عندما يشكون لي عن ظروفهم ، ولهذا السبب كنت أشعر بينهم بعدم الاغتراب ، هذا الشعور لم أشعره بين زملائي المصريين الذي كان يتشكك كل منهم في الآخر فإذا عملت خيرا قالوا انك تقصد ورائه مقابل واذا عملت شرا فأنت شرير ويؤلفون عنك كل حكايات الشر

** اثناء تحدثي مع العراقيين عن مشكلاتنهم الشخصية  كنت اواسيهم  بقولي ما معناه أننا كلنا نعاني المشكلات ولا يوجد أحد مرتاح ، فأجدهم عند ذلك يقولون لي ما معناه : نعم ، وان الغربة بعيد عن بلدك  شيء صعب ايضا  ثم يسألونني عن أهلي واسماء أفراد اسرتي وعندما اقول لهم أسماء اخوتي يسألوني عن أخبار كل منهم بالاسم حتى نهاية السنة الثانية بالعراق .

(( أسماء مختارة وليست عشوائية ))

** لاحظت من خلال أسماء أبناء القرية وجود عامل مشترك في اسماء كل اخوة وقد يكون ذلك نتيجة تفكير منظم وليس عشوائي في اختيار الاسماء وعلى سبيل المثال :

( علي ، حسين ، حيدر) ( خالد ، خالدة ، ناهدة ، ساجدة  ، ماجدة )  ( شفاء ، هناء ، سناء ) ( سكينة ، ركينة ) ( نورية , نوال ، عدوية)  ( شيماء ، علياء ) ( كميلة ،  عطية ، سامية ) ( غني ، غنية ) ( جابر ، مسافر )

** لم أترك هذه الملاحظات تمر بدون تفكير في دلالاتها ، فاقتنعت ان أنها تدل على دقة وعدم عشوائية كما تدل على ارتباط اسري .

** وتأكد لي ذلك عندما لاحظت قوة احترام الكبير واحترام الكلمة واحترام العادات والتقاليد .

(( الاستاذ / هادي ))

** كان الاستاذ هادي مدير المدرسة التي كنت اسكن بها نظامي ( روتيني ) رغم أنه يعمل في القرية كنت ألاحظه في اجتماعاته يديرها وفق القواعد الرسمية وفي نهاية الامتحان كنت ألاحظ كلمة ( انتهى الاجتماع وروحوا الى فصولكم ) وكان هذا الحزم سببا في ارتفاع مستوى البنين عن مدرسة البنات ، وكان كثير من التلاميذ يرسب ويعيد السنة ولا يقبل أي وساطة ومن هؤلاء الطلاب طالب اسمة رحيم ظل يرسب حتى وصل الى سن كبير وكان طالبا هادئ الطباع يحرص على مرافقتنا أنا والاستاذ حسن  وكنا نشفق عليه لتعثره في المدرسة الابتدائية وكنا نتخذه رفيق لنا وقبلنا دعوته لنا على العشاء في منزله ذات يوم واستقبلتنا والدتنا استقبالا حافلا بالبخور ( ياهلا يابعد عيني يابعد قلبي ) كما استقبلنا ايضا والده بالحفاوة وأوصانا لكي نساعد ابنه في الدراسة ولم يوصينا على مساعدته في الامتحان كما كنت أتوقع ، وقال لنا ابيه انه يطمئن كثير كلما علم أن ابنه رحيم ذهب الينا

** ومن أهالي القرية أيضا  الذين زرناهم الاستاذ مطيع الذي وعد الاستاذ حسن بأنه سوف يوفر لي سنا ثم سحب وعده ، عزمنا على العشاء وقضينا معه وقتا ممتعا في مشاهدة التليفزيون وكانت والدته تقوم بتسوية الشاي على الفحم

(( عجوة بالمكسرات ))

** ومن أهالي القرية الذي زارني في غرفتي أكثر من مرة السيد / جابر وهو معلم ظريف زميل الاستاذ مطيع في مدرسته  ورغم صغر سنه كانوا يقولون له يامولانا وكان يحب الفكاهة والغناء أيضا وكان يعبر عن رغبته في تعلم الموسيقى وأحضر لي ذات يوم قرص كبير من العجوة بالمكسرات وبعض من الروبة  ( اللبن الرايب ) ويبدو أنه في ذلك اليوم كان يعتبر هذه الهدية مقابل تعلمه الموسيقى مقدما ولكن لم تسنح الظروف لهذا التعلم لانشغاله في عمله ولبعد قريته .

** وحدث  أن استعار مني الطالب رحيم كشاف بالحجارة وعندما ضاع منه هذا الكشاف أصر على أن يعطيني محفظة بديلة له  بنفس سعر الكشاف تقريبا

** وكان من الطبيعي أن أقبل الهدية ومن الطبيعي أيضا أن يقبلون الهدايا بدون حرج لأنني تأكدت أنهم لا يعرفوا عزومة المراكبية

(( جمع فلوس الصور ))

** لم أجد حرجا في طلب الفلوس أيضا عندما أصور الطالبات ولم أعاني في جمع الفلوس وكنت مطمئنا الى أن فلوس الصور سوف تصل مهما طال الوقت ، وتأكد هذا الاطمئنان عندما وجدت طالبة بعد أكثر من شهر من استلامها الصورة تقدم لي ثمنها بدون أن أطلب منها  أو استعجلها

** لاحظت رقة في مشاعرهم أيضا من بعض العبارات المتكررة ( أخاف أكون زعلتك في شيء )

** ومن خلال المناقشة ذات يوم مع أحد العراقيين قال لي أن المصريين سريعا ما يتعاركون وسريعا ما يتصافون وكأن شيئا لم يحدث ، كما قال أحدهم أنني أرى أن كثير من المصريين عندهم ازدواجية

** وعن سب الدين أذكر أن بعض العراقيين يمكن أن يسب الدين اثناء العراك وشدة اثارته قائلا خراب دينك خرب ايمانك  ولكن المصري يسب الدين في كل وقت حتى في الكلام العادي في العراك وبدون العراك وقد يكون على سبيل المزاح  ( حط دين أم دي في دين أم دي )

** وعندما أخلو الى نفسي أصل الى أن التدين في مصر أصبح  عملة زائفة يستخدمها الناس في ادارة شئونهم في البيع والشراء وفي جميع الأعمال

** في الأيام الأولى لسكني في القرية دعاني الاستاذ حسن الى بيته في مدينة الشطرة في حي المعلمين وهي منطقة في أطراف المدينة أكثر هدوءا ولكن الطرق فيها غير ممهدة والبيوت فيها بدور واحد أو اثنين.

ومدخل البيت يؤدي الى حديقة صغيرة بها قليل من أشجار الفاكهة وخضروات ورقية ، ومن باب الحدبقة الى باب يؤدي الى مكان للضيوف به انتريه خشبي عادي وبه وسائد من الأسفنج ، ويوجد باب آخر خاص بأفراد الأسرة وباب ثالث يفتح الى المطبخ لكنه ليس للخدامين لأن نظام الخدم يبدو أنه غير شائع هناك . ولاحظت أن وراء كل باب حوض لغسيل الأيدي ، عرفت بعد ذلك أن هذا النظام في معظم البيوت وليس هذا البيت فقط .

(( الاحساس بالبيت والأسرة عند الاستاذ حسن ))

** بعد ان دخلنا غرفة الاستقبال وغسل كل منا وجهه ويداه جلسنا في جو من الهدوء جعلني أتذكر بيتنا أو بيت أقاربنا ، ثم تناولنا الغذاء وهو غذاء بيتي يحتوي على الطبيخ والرز وأعجبني فيه ايضا عدم المبالغة في الملح والمواد الحريفة وكأنه من عمل والدتي ومع هذا الأكل يقدم كوب اللبن وهو كوب من اللبن الرايب مضاف  اليه الملح ويقدم مع كل الوجبات وبعض من ثمار العجوة والزلاطة ( السلطة ) والتي يقدم فيها التفاح الأخضر أحيانا .

والمشروب الذي يحبونه غير الشاي هو الحامض وهو مستخلص الليمون المجفف ، وعلمت بعد ذلك أن من الأسماك المحرمة عندهم هي ( الجري ) وكذلك الأرانب

تناولنا الغذاء في صينية وضعت على الأرض ، وعرض علي أن يضعها على المنضدة فرفضت واخترت الطريقة الطبيعية  وتناولت الغذاء بلا حرج وخاصة لعدم الالحاحات الكثيرة .

وبعد تناول الغذاء جلسنا نتحدث في شتى الموضوعات ،  أطلعني الاستاذ حسن على الجيتار الذي اشتراه من يوغسلافيا ، وشعرت بهدوء غريب في هذا المنزل فجميع الأصوات خافتة والراديو والتليفزيون لا يسمع من الحجرة المجاورة

**في ذلك اليوم احسست باحساس افتقدته منذ شهور وهو الاحساس بالبيت والأسرة بعد أن قضيت أكثر من شهرين بين الفنادق ومساكن العزاب

وصل هذا الاحساس الى الاستاذ حسن ودعاني لكي أذهب اليه أثناء الاجازات وعرفني على اسرته وعرفت ان والده قد سافر الى مصر سابقا وأحضر بعض اللوحات المعلقة بالغرفة

** حدث كل ذلك  ولم أكن قد حولت مبالغ الى مصر حتى الآن ولم أجهد نفسي في معرفة نسبة التحويل وسعر التحويل ، واخيرا استطعت أن أحول ما يعادل 800 دولار واحسست بالاطمئنان الى أنني أصبحت قادرا على سداد ال500 جنيه التي اقترضتها من خالي

(( بدء التعاقد كمدرس بمرتب ثابت ))

** عندما بدأت أجازة نصف العام والتي مدتها اسبوعان كان من الطبيعي أن أذهب الى بغداد  لكي أسأل عن أخبار التعيين ، وفي هذه المرة ذهبت مع أحد الزملاء الذي كنت أسكن معه في فندق الزهراء  قضينا وقتا ممتعا في الرحلة الى بغداد وخاصة الجو لم يكن حار في هذا الوقت من السنة ، وعندما وصلنا الى بغداد اشتريت علبة من الجبن الجيد

** وطلب صاحبي أن اشتري له علبة أيضا فقلت له سنجعل هذا العلبة لنا احنا الاتنين فقد نجد نوع  آخر  وقبل ان اكمل كلامي وجدته يتركني و يجري مسرعا عرفت انه غضب مني فمشيت وراءه راكضا وشرحت له الموقف مرة أخرى وبصعوبة استطعت أن أواصل السير معه الى وزارة التربية لكي نسأل عن أخبار التعيين

** عندما وصلنا الى الوزارة كان الخبر المفرح وهو صدور أمر وزاري بتعيين جميع المحاضرين في محافظتنا مدرسين بأجر ثابت ، واثناء استطلاعي لاسماء المعينين لمحت اسم الاستاذ علي وهو زميل لنا وقلت لزميلي هاهو اسم الاستاذ علي زميلنا ثم لمحت بعد ذلك اسمي ففرحت كثيرا وكأني نجحت في الثانوية العامة

(( محاولة للوقيعة ))

** عندما وجدني صاحبي بهذه الفرحة نسى أو تناسى أنني لمحت اسم صديقنا قبل اسمي وقال لي انك لا يهمك الا نفسك وحاولت اقناعه دون جدوى ، وعندما رجعنا الى الشطرة وفي لقاء مع الاستاذ علي وجدته عابسا ومتأثرا ، علمت ان هذا الشخص قال له :أن علاء بمجرد أن رأى اسمه في الأمر الوزاري طلع يجري وانا طلبت منه ان ينتظر نبحث عن اسمك فلم يقبل ،  واجهت هذا الشخص أمام الاستاذ / علي بالحقيقة وجدته يتردد فقال لي الاستاذ علي ( بس خلاص  ان الموضوع باين ان هو عايز يتكلم وبس )  

** عندما ذهبت الى المديرية بمحافظة ذي قار لتسوية مرتب الثلث الأخير من يناير كما ينص العقد ولكن الموظف المصري أصر أن يبدأ المرتب من أول فبراير لأنني صرفت فلوس حصص يناير لم أحاول كثيرا رغم أنه كان من الممكن حساب فرق الحصص من ثلث المرتب ورضيت بالحال ورجعت الى الشطرة وذهبت الى الاستاذ حسن وعلمت أن والده مريض في بغداد ووعندما علم بأنني أنوي الذهاب الى بغداد أعطاني عنوان والده بالمستشفى واعطاني رقم تليفونه للاتصال به وطمأنته على صحة والده

** ذهبت الى بغداد وارسلت من هناك رسالة لأسرتي لكي أبشرهم بهذا الخبر السعيد وهو تعييني بأجر ثابت ثم اتصلت بأقارب الاستاذ حسن للسؤال عن صحة والده

(( زيارة لصاحبي محمد القاضي ببغداد ))

** ثم اتجهت الى فندق كوكب الفرح حيث يسكن صديق لي ( محمد القاضي ) ولم يكن موجودا هناك واضطررت الى انتظاره مع صاحب الفندق ويبدو أنه رجل ريفي من الجنوب لأنه يلبس العقال وملامحه مثل ملامح أهل الجنوب  تعرفت عليه وعرفت ان قريته تابعة لمدينة الشطرة وعندما علم أنني أسكن في قرية آل حسن ظل يسألني عن بعض أهلها وقال لي أنا لا أعرف من القرية الا كبارها الذين ماتوا ولاحظت أن هذا الرجل اندهش عندما ذكرت له اسماء بعض النساء والذين منهم مديرة المدرسة فقلت له أنني أدرس في مدرسة البنات فزالت الدهشة عنه وسألني عن بنات بعض معارفه بالقرية ، وأثناء الحديث قدم لي الشاي وأثناء مرور أحد الاشخاص بالفندق أشار اليّ وقال لهذا الشخص هذا ابن ولايتي .

(( قدوم والد صديقي محمد القاضي ))

** في ذلك اليوم حدث بالصدفة أنني رأيت شخصا كبير السن يسأل عن صاحبي محمد القاضي ، فقال له صاحب الفندق انتظره بالصالة حتى يأتي من عمله  ثم وجه لي صاحب الفندق سؤلا : هل تعرف هذا الرجل ؟ قلت لأ .  ثم استأذنت من صاحب الفندق لكي أذهب الى الصالة لكي اتعرف على ذلك الشخص  فكانت المفاجأة أنه والد صديقي قد أتى تواً من مصر  فجلست معه وانتظرت قدوم صديقي محمد القاضي  وعندما حضر جلسنا نحن الثلاثة  في الفندق ولم يكن لنا مكانا إلا بالصالة ، وبعد ذلك استأذنت  منهما بالانصراف فأوقفني صاحبي  لكي ينزل لتوصيلي الى فندقي الذي أحجز فيه مكانا  وفي الطريق الى فندق زين القوس تحدثنا سويا أنا وصديقي محمد القاضي وحكى لي عن المعاناة التي يعانيها من الأعمال الحرة فتارة يعمل في مزرعة دواجن  ثم في مطعم ثم في مشرب ، وهاهو والده أتى اليه في العراق ، أحسست بمعاناته  وحمدت الله كثيرا على أنني لم اعاني مثل هذا المعاناة  وتمنيت له أن يوفقه الله في الحصول على عمل مستقر

وعندما وصلت الى فندق زين القوس عرضت على صاحبي مبلغا من المال مساعدة له لكنه رفض وجلسنا معا في استراحة فندق زين القوس حتى يأتي ابو عمار عامل الفندق لكي يعد لي مكانا وبعد ذلك انصرف محمد القاضي على أمل القاء معه يوما آخر .

(( الفلوس أوشكت على الانتهاء ))

** في اليوم التالي ذهبت في الصباح الى شارع الرشيد لكي أشتري بعض الأشياء اللازمة لي  لكنني وجدت أن الفلوس أوشكت على الانتهاء  ولم يصبح معي أكثر من ثمن أجرة الاوتوبيس الى ذي قار حيث أنني حولت جميع الفلوس  لكنني لم أقلق لأنني اضمن مصدرين يمكن أن أقترض منهما وهو الاستاذ / أحمد قاسم صديق خالي الذي يسكن قريبا من كربلاء والاستاذ حسن العراقي ، ذهبت الى الاستاذ أحمد قاسم بهدف زيارته كما تعودت في كل مرة أذهب الى بغداد  وبهدف الاقتراض وتبشيره بأنني أصبحت مدرسا بأجر ثابت  ذهبت اليه فعلا  وبت معه ليلة بعيدا عن ازدحام الفنادق  وكان في هذه المرة زميل يسكن معه وطلبت منه لأول مرة فلوس قدرها 20 دينار أخذت العشرين دينار ولم أفكر في زياة الشمال في هذه االعطلة كما كنت أنوي وأجلت سفري الى الشمال حتى يأتي الصيف حيث تكون الحرارة معتدلة

** رجعت الى مدينة الشطرة والى منزل الاستاذ حسن  وقضيت عنده ليلة  قبل الرجوع الى قريتي وعندما رجعت القرية يوم الجمعة وجدت كثير منهم يستقبلونني بحرارة كما لو كنت من أقاربم

أحضرت بعي بعض الكروت التي وزعتها على بعض أطفال القرية  واشتريت من بغداد جلابية للحارس العراقي حسين الراضي  واشتريت ايضا فلاوت لابن الاستاذ هادي مدير المدرسة التي كنت أسكن فيها وذلك كنوع من الهدايا نظير خدماتهم التي يقدمونها لي

(( العودة من أجازة نصف العام ))

** انتهت أجازة نصف العام ولم استغلها لانشغالي بالذهاب الى الوزارة ثم الى المديرية  ولعدم وفرة الفلوس لأنني كنت قد حولت جميع ما معي من دنانير  واقترضت من الاستاذ أحمد قاسم

** وعندما عدت الى المدرسة شعرت بأنني ابدأ صفحة جديدة نسيت كثير من المتاعب ، أصبحت القرية أجمل من ذي قبل وأصبح التدريس أكثر متعة  وازدادت حيويتي  ومرحي لدرجة ملحوظة

وفي اليوم الأول بعد انتهاء الاجازة وجدت الفرحة أيضا في وجوه المديرة وزميلتي الست ساهرة وجدتهما يقولان أن الاستاذ علاء له وحشة أما الاستاذ حسن لا ( كان ذلك نتيجة خلافات سابقة )

ظن بعض الطالبات أنني سافرت الى مصر ووجدتهم يسألونني عن الأسرة

سألت كل واحدة من الطالبات عن كيفية قضائهم لأجازتهم  قالوا : في البيت ، وقالت احداهم ان المدرسة أفضل من الأجازة ولاحظت من خلال تحدثي معهم أنهم على دراية كبيرة بمسلسلات وأفلام التليفزيون  ومعرفتهم لأخبار الفنانين المصريين بل فوجئت أنهم يعرفوا مطرب سوداني لا أعرفه وهو السيد خليفة

** كانت علاقاتي مع الطالبات في كثير من الأحيان غير رسمية وخاصة عندما يترك في المحادثات المديرة والزميلة العراقية واراقبهم وهم يلعبو السيجا ( المحلقوه )

** وكذلك كانت لي علاقات مع تلاميذ الابتدائية وفي أحد المرات علمتهم طريقة عمل الطيارة الورقية في مصر ، وأحيانا كنت أدخل حصص احتياطية في المدرسة الابتدائية ( بدون مقابل طبعا )  أشغله هذه الحصص برسم مناظر طبيعية وكان من خلال الرسومات تتفتح موضوعات عديد خاصة بالبيئة التي يعيشون فيها ومن هؤلاء التلاميذ الصغار قحطان  بالصف الأول الابتدائي لكنه كان يرسم السلحفاة باتقان وغير ذلك من الحيوانات

وطالب آخر كان ضعيف في القراءة  ولكنه يجيد الغناء لدرجة ملحوظة  وكانت أخته تجيد الرقص العراقي ( البزخ ) ومنهم محمد مجيد كان يجيد تمثيل عادل امام

** وعن مدرسة البنات كنت ألاحظ ضعف مستواهم التعليمي ولكن هذا الضعف كان له أسباب خارجة عن ارادتهم نتيجة حدوث اهمال عند معلمات الابتدائية للبنات وكان لي وجهة نظر انسانية أننا لا يجب أن نرسبهم جميعا في هذا العام وأن نخفف عليهم الامتحانات ولا نعاملهم مثل مدارس المدينة ، باعتبار أن المدرسة في الريف بالنسبة للبنت مكان لممارسة اجتماعيتها وتلطيفا لمعاناهم في الأعمال المنزلية ، كنت أرى أننا لا يجب أن نحدث صدمة لهن بترسيبهم جميعا وكان الاستاذ حسن يوافقني على ذلك واختلفت معنا الست ساهرة الزميلة العراقية

** اتخذت مبدأ أن نهتم بالمدرسة المتوسطة ( الاعدادية ) كمكان اجتماعي وأن نهتم بالانشطة ومن خلال الاحاديث المتبادلة معهم عرفت أن كربلاء بها صناعات حفظ المواد الغذائية وأن النجف مشهورة بالمخللات  وسامراء لصناعة الادوية

** من أحاديثي مع الطالبات أن التعليم بالنسبة للمرأة له أهمية كبيرة في المستقبل ليس في العمل فقط وانما عند تربية أبنائها

** وأثناء الحديث عن اقتراح باجبار البنات على الزي العسكرية قالت احداهن أن هذا لا يزعجهن وانما يقلقهم أن آبائهم لن تسمح لهم بالذهاب الى المدرسة بهذا الزي لأنهم لا يقبلون أن بناتهن ترتي البنطلونات .

** وعندما قلت لهن  ان البنات في مصر يمكن ان يرتدون البنطلون في المدرسة وفوقه بلوزه طويلة ، ردت احدى الطالبات بكل صرامة : التقاليد تختلف .

** كان لوقع هذه الكلمة أثر كبير في عدم الخوض في أحاديث خارجية فقد يسيء البعض فهم بعض الآراء.

(( شخص غريب يأتي الى المدرسة ))

** في أحد الايام أتى شخص مصري غريب لم أعرفه من قبل الى المدرسة واستقبلته الى داخل المدرسة أمام الاستاذ حسن والمديرة ( الست ضوية ) والست ساهرة وعرفني على نفسه وقال لي بانه كان يعمل في محافظة كربلاء محاضرا أي أنه كان زميلا لي من قبل  وهو يعرفني ولكني لا أعرفه

رحبت به الترحيب العادي  وسألته عنما يريد فقال لي أنه محول من كربلاء الى العمل بقرية مجاورة لنا تبعد عنا بمقدار 5 كيلومتر  وأنه تعب في البحث عن سكن بالشطرة وعندما علم أنني أسكن في هذه القرية القريبة من مدرسته أتى الي لكي يعرض علي أن يسكن معي .

** كان وقع هذا الطلب علي مثل الصاعقة  شعرت بأنني سوف افقد كل الراح  التي أعيشها الآن شعرت انني حسدت ةنفسي على سكني بمفردي بعيدا عن المشاكل التي يختلقها الزملاء المصريون ، شعرت أن لحظة انقلاب حدثت ما تعودت من قبل

** شعرت بأنني لا يجب أن أرفض لأنني مررت بهذه الظروف وسلمت امري الى الله ، تشاورت الأمر مع الاستاذ حسن فقال لي أنه سوف يعرض الأمر على الاستاذ هادي مدير المدرسة التي أسكن فيها  ووعدنا هذا المدرس المصري أن نرد عليه خلال يوم عندما نأخذ رأي مدير المدرسة وأرشدت هذا المدرس الى مكان الاستاذ / داود  لكي يذهب اليه وفعلا ذهب هذا الشخص ( عادل ) الى الاستاذ / داود

** بعد أن انصرف هذا الشخص تبادلنا النظرات أنا والاستاذ حسن  للتفكير في هذا الأمر قلت له هل انت فعلا سوف تقول للمدير  فقال لي أن المدير لن يوافق لأن المدير كما تعرفه رجل نظامي  ولم يوافق على سكنك إلا عندما اخذ رأينا جميعا فيك وكذلك فإن أهل القرية قد يستاءون من وجود شخص جديد عليهم لا يعرفوا كينونته  فهو ليس مدرسا مثلك بالقرية لكي يستطيعوا أن يتعرفوا على أخلاقه "

** ثم أضاف لي قائلا : انني في الحقيقة لاحظت أن هذا الشخص يختلف عنك  فيبدو انه عصبي وانه عالي ( متكبر )  وربما وجوده قد يحدث مشاكل نحن في غنى عنها

** اتفقنا على أن نخبر هذا الشخص بأن مدير المدرسة لم يوافق  وكتبت له على الفور رسالة جاء فيها أن الحياة هنا بالقرية تختلف عن مصر  وأن كثرة المصريين بالقرية سوف يؤثر في نفوس أهل القرية عندما يجدوا شبابهم على الجبهة وقد استبدلوا بغيرهم من المصريين

** هذه الحادثة جعلتني أؤنب نفسي أحيانا لكنني ارتحت بعد ذلك  عندما سمعت انه حصل على مكان  وعندما علمت فعلا انه لا يستحق السكن معي لأنه اندفع في الكلام  وأظهر لزملائه المصريين أنني لم استقبله جيدا

(( 25 فلس ))

**حدث ذات مرة أثناء عودتي من مدينة الشطرة الى القرية التي أسكن بها ركبت سيارة تاكسي بالنفر وكان مكاني بجوار السائق وجدت السائق أثناء سيره يعطيني بيده عملة 25 فلس ( قيمة رغيف واحد ) وقال بصوت خافت كلام غير واضح فسألته ماذا تعني؟ قال هذا حقك ، لأنك ركبت معايا مرة ووقعت الفلوس منك ، فقلت له شكرا و دي حاجة بسيطة ، فرد علي رد قاطع لم أستطع الرد عليه :  هذا حقك ، فاضطررت ألا أعيد الكلام ولا الشكر ، مضى هذا الحوار سريعا وبصوت خافت بحيث أن الركاب من خلفي لم يعلموا بشيء من هذا الحوار السريع .

** تذكرت أن هذه الحادثة ان حدثت في مصر سوف يعقبها كلام عن الضمير والأمانة والصدق بطول الطريق ويتنافس جميع الركاب في التحدث عن القيم والمبادئ  .

** لم يعجبني من ذلك الأمانة فقط ، فالامانة طبيعة عند البشر، في كل البلاد وبكل الديانات والمذاهب ،  ولكن الشيء الذي أثار اعجابي الدقة في الكلمات وعدم المتاجرة بالكلمات وعدم الثرثرة والاسترسال في أحاديث مضيعة للوقت . 

** بدأت نفسيتي ترتاح  وتتحسن صحتي ويزداد وزني  وارتفع مستوى عزفي على الجيتار  بشكل ملحوظ  وتدربت على قراءة النوتة الموسيقية لاناشيد الاطفال  البسيطة ثم الاناشيد الاكثر تعقيدا  ثم الاغاني العادية

(( تأليف وتلحين الحب للجميع والاستعداد للحفلات ))

وعندما اقترب موعد حفلة بمناسبة وطنية اقترح علي الاستاذ حسن بأن يؤلف لي  ويجمع لي مجموعة من الأشعار  لكي أقوم بتلحينها وتحفيظها للطلاب في المدرسة الابتدائية  للبنين  لكي يغنوها في  الحفلة القادمة

وافقته وأنا غير مطمئن  لهذه الفكرة  وأخذت هذه الفكرة على أنها مجرد محاولة  او تدريب على التلحين  وجدته  فعلا جاد في كلامه  وفي اليوم التالي أحضر لي مجموعة من ألاشعار بعضها من تأليفها والآخر مختارة من بعض الاناشيد  نظمنا سويا هذا الاشعار  وحزفنا ما حزفناه  لكي تناسب اللحن والموضوع وعملنا ما يشبه الاوبريت  الغنائي  تحت عنوان الحب للجميع  ويقوم بغنائه أربعة افراد والمجموعة

وكل من الأربعة افراد يمثل فئة من فئات الشعب وهي الفلاح ، العامل ، الجندي   ، الطالب

الفلاح : الحقل الأخضر صنع يدي وأنا فلاح يابلدي ، فلاح يابلد النور استيقظ قبل العصفور وأرش ترابك من تعبي فرحا وسنابل كالذهب

العامل : بأيدينا صنعنا المعجزات بنينا الرائعات الباقيات رفعنا ألف سارية وسد على النيل العظيم على الفرات

الجندي : أنا جندي لهذا الوطن أفديه بأغلى الثمن ، لا أهاب الموت مهما عصفت بالبرايا نكبات الزمن

الطالب : على طريق معهدي أمشي  أنا يمشي غدى يمشي معي المستقبل وفي طريقي المشعل

وفي كل مرة  ترد المجموعة النور للجميع الحب للجميع من زهرة بعينها لا يصنع الربيع

حفظت التلاميذ هذا العرض الغنائي وأناشيد أخرى وطنية وحاز هذا العمل اعجاب الكثيرين

** أما المدرسة المتوسطة التي  كنت أعمل بها فإنني في هذه السنة   لم أشترك  في حفلانتها لانها كلها تحتوي على بنات طالبات  ترغبن في غناء أغاني تخصهم وإما الرقص

** انتشرت أخبار حفلتنا  ووجدت أطفال القرية يرددون مقاطع من الأوبريت

(( الاعداد لمسرحية تاريخية ))

** في يوم آخر  قال لي  الاستاذ حسن  أن المدير يريد أن يستفيد  من خبراتك الفنية في الحفلة القادمة  وهو يغيب في عمل مسرحية  يمثلها الطلاب أقول له انا لا أعرف  فقال لي لكن الاستاذ هادي  يعتبر ان المصريين كلهم ممثلين ورقاصين                                                                                                                                                                   

لم أوافقه وطلبت منه عمل آخر  غير التمثيل  فقال لي ( ما عليك  أنا سوف أعد نص هذه المسرحية وامعتصماه

اختار الاستاذ حسن مجموعة من الاطفال  ووزع عليهم الأدوار

** في صباح  يوم الحفل قمنا بعمل ما يشبه الماكياج للتلاميذ وهو عبارة ذقون من القطن الأبيض ألصقناها بالصمغ على الموجوه واعددنا الحراب الخاصة بالجنود من فروع الشجر المستقيمة ، وألبسنا أحد الطلاب زي الخليفة ، وأمرت أحد التلاميذ أن يحضر ريشة طائر  كبيرة لكي نضعها على عمامة الخليفة وعندما تأخر هذا التلميذ لجأت الى فكرة أخرى وهو استخدام أطراف زعف النخيل بدلا من الريشة وكان ذلك في متناولنا والحقنا هذا الزعف بجميع العمامات ، وألبسنا احد الطلاب امرأة وآخر منهم ملابس قديمة بالية

وعندما بدأ الحفل قمت كالمعتاد بعزف السلام الجمهوري والنشيد القومي والعزف أثناء غناء بعض الأغاني الخاصة بالصغار وعندما أتى دور المسرحية وظهر الأطفال الممثلون بملابسهم الغريبة انفجر جميع الحاضرين بالضحك  وانصرفوا عن الانتباه الى موضوع المسرحية ولكن تم العرض رغم أنف الحاضرين

(( الغناء بالجيتار ))

** بعد الانتهاء من كل برنامج الحفل طلب الحاضرين أن أغني لهم فقلت لهم انني لا أحفظ أغاني  لهذه المناسبة الوطنية وعندما أصروا استأذنت المدير أن اغني اغنية أول مرة لعبد الحليم وافق المدير وغنيت هذه الاغنية وانا أعزف على الجيتار واتجول بين الحاضرين  واندمجت في الغناء وكأني أغني في غرفتي وبعد الانتهاء صفق لي الحاضرين وبعد هذه الاغنية تشجع الكثيرين للغناء ولالقاء الشعر وكأنه برنامج جديد غير البرنامج الذي أعددناه ، وكانت الحفلة ناجحة بفضل سيطرة الاستاذ حسن على النظام لما يتمتع به من شخصية قوية .

** في هذه الفترة تعلمت ركوب الدراجة لأول مرة وشجعني على ذلك كثرة الدراجات التي يأتي بها التلاميذ من القرى المجاورة والأماكن الواسعة  المنبسطة تماما وكأنها أرض مسفلتة ويرجع ذلك إلى أن هذه الأرض يأتي عليها وقت تكون مغمورة كلها بالماء وعندما يجف الماء يترك سطحا مستويا ، واعتدت في ركوب الدراجة على نباح الكلاب كلما دخلت في منطقة نفوذهم وأحيانا كان يشتد نباحهم لدرجة أنني أنزل من الدراجة وارمي الكلاب ببعض الحجارة لكي تخاف وتبعد

(( قدوم صاحبي محمد القاضي الى القرية ))

** في أحد أيام الجمعة كنت أتجول كعادتي في الجو الجميل وقريبا من حقول القمح الصغيرة المتناثرة وكان معي أحد أبناء القرية واخترنا مكانا جيدا للجلوس في هذا الجو الجميل ، وقلت لصاحبي انني لن أذهب لمشاهدة الفيلم المصري اليوم فأنا أريد أن أجلس هنا حتى الغروب ولن أترك هذا المكان إلا اذال دث شيئا ضروريا  

** قبل  أن نتم هذا الكلام وجدت شخصا من القرية يأتي مسرعا يقول أن شخصا مصريا أتى الى القرية يسأل عليك ، اندهشت في هذه المرة وتساءلت من هذا الشخص الذي أتى في هذا اليوم ، خفت أن يكون شخصا يريد السكن معي في القرية لكنني في هذه المرة كنت أنوي الرفض صراحة وبدون تردد  نهضت من مكاني في اتجاه غرفتي حيث ينتظرني ذلك الشخص وعندما اقتربت قال لي أحد الأطفال أنه يقول انه أخوك ، فبدأت أتوقع أنه ربما يكون صديقي محمد القاضي فأخذت أحدى الدراجات من أبناء القرية  واتجهت مسرعا وذهبت الى حيث كان ينتظرني واستقبلته الاستقبال الحار وجلسنا نتحدث عن الاسكندرية بعد أن تناولنا الغذاء البسيط وكان من المعلبات وكنا نمزح على هذا الغذاء البسيط ونقول اننا دبحنا اليوم لك قواطي ( معلبات )  ثم أخذته للتجول في القرية ولكن بعيدا عن الأماكن السكنية وشرحت له للمرة الثانية بكل وضوح  أن ظروف القرية لا تسمح باستضافة شخص آخر ولكني سوف استضيفه الليلة فقط

** وفي اليوم التالي عندما أتى الاستاذ حسن والمدير والمعلمات في الصباح الى المدرسة وعلموا أن احدا يبيت معي في الغرفة ، فوجئت بأحد التلاميذ يأتي قائلا أن المدير يريدك في المكتب ، تعجبت لهذا الأمر لأن المدير عندما يريد شيئا يأتي الي في غرفتي .

** ارتديت ملابس الخروج وذهبت الى حجرة المدير لم أجده ووجدت بدلا من الاستاذ حسن ، الذي قال لي أن المدير علم ان شخصا غريبا في المدرسة فأوكلني معرفة هذا الشخص وذهب هو الى المديرية في نفس السيارة التي أتى بها وقلت لها أن هذا الشخص هو صديقي محمد القاضي ، فقال لي كم يوم سوف تستضيفه قلت له اليوم فقط ، فقال لي كنت أخاف أن تكون وعدته بأكثر من يوم  ثم قال لي ما معناه أرجو ألا تكون قد أحرجته .

** وبعد تناول الافطار مع محمد القاضي ذهبنا الى غرفة المدير وجلسنا نحن الثلاثة أنا والاستاذ حسن وصديقي محمد القاضي نتحدث في شتى الموضوعات ووجدت الاستاذ حسن يزيد من ترحيبه بمحمد القاضي  وكأنه يريد أن يصحح خطأه في استدعائي بالمكتب صباحا

** وفي فترة هذا اللقاء الثلاثى حدثت عدة مواقف مع الطلاب منها أنه كان يقسم الطلاب فريقين للعب كرة القدم بحيث يشمل كل فريق العديد من القرى حتى لا يحدث تعصب قروي او قبلي 

موقف آخر من أحد الطلاب يشكو ان طالبا جرحه أثناء اللعب بالعصى ، عند ذلك وجدت الاستاذ حسن يتصف بهدوء واتزان وضمد للطفل جرحه واستدعى الطالب المعتدي ووبخه بالكلام ثم هدده وقال له أنا حاجرحك زي ما جرحته  واجعل الدم يسيل من وجهك ، خاف هذا الطلب ظل يبكي ثم ضربه ضربا خفيفا وقال له اعتذر لزميلك

** وعندما أتى موعد الفترة المسائية ذهبت الى عملي بالمدرسة المسائية للبنات واصطحبت معي أيضا صديقي محمد القاضي وعندما وصلت المدرسة وجدت بها اجتماع مجلس امهات فاتجهنا الى موقف السيارات وصعدت في سيارة تاكسي مع محمد القاضي متوجهين الى الشطرة حيث يأخذ هو سيارة متجهة الى بغداد ،

** بعدما وصل محمد القاضي الى الشطرة وجدت المطر يتساقط بغزارة وودعت محمد القاضي على أن القاه في المرة القادمة في بغداد ورجعت أنا في نفس السيارة التي ذهبت بها الى الشطرة الى القرية مرة أخرى حيث بدأت اليوم المدرسي بعد انتهاء مجلس الامهات  .

(( عودة صاحبي الى المدرسة أملا في المبيت مرة ثانية ))

**  وبعد انتهاء الحصة الرابعة بالفترة المسائية وجدت محمد القاضي يرجع الي مرة أخرى الى القرية ويقول أنه لم يستطع أن يحصل على سيارة متجهة الى بغداد بسبب المطر الغزير وكان على أمل أن يقضي هذه الليلة معي في القرية مثل الليلة السابقة عند ذلك قال له الاستاذ حسن : طالما انت صديق الاستاذ علاء فانني أدعوك اليوم للمبيت في بيتي بالشطرة بدلا من القرية حتى لا نسبب مشكلة للاستاذ علاء

** لم أستطع أن اضيف شيئا  وذهب محمد القاضي مع الاستاذ حسن  وقضيا ليلة في التسامر وحكى له الاستاذ حسن بعضا من ظروفنا الخاصة ورغبته في الزواج من احد الريفيات وفي الصباح اصطحبه الاستاذ حسن الى السيارة  المتجهة الى بغداد .

(( تصرفات حكيمة من الاستاذ حسن ))

** كان الاستاذ حسن أكثر حرصا مني على الاحتفاظ بالغرفة التي أسكنها ليس من اجلي فقط ولكن كانت له مصلحة خاصة لأنه يبيت مع في بعض الأوقات التي يكون مهددا فيها بالقبض عليه أو الاستدعاء لأمور سياسية وكان يفصح لي كثيرا عن رغبته في الهرب الى الاهوار او الى خارج العراق وكان يقول لي في جميع الظروف اذا سألك احد عن مكاني قول له لا أعرف .

** حدث أنه في اليوم التالي لمبيت صديقي محمد القاضي  وبعد عودته الى  بغداد أنني بحثت عن الراديو الصغير الذي كنت استعمله فلم أجده وبدأت أشك في أن الراديو قد أكون نسيته في الأرض  ولكني تأكدت بعد المزيد من التفكير أن الراديو قد سرق وأن السارق قد استغل فرصة تواجد شخص غريب حتى تلتصق التهمه به

** وعندما علم الاستاذ حسن بذلك اعلن استيائه لذلك وجمع عمال المدرسة وقال لهم أن هذا الأمر لم يمر بسهولة ولابد ان نعرف من السارق ، لأن الراديو ليس ملك الاستاذ علاء ولكنه ملك المدرسة ، وشك الاستاذ حسن في أحد العمال وقام بتفتيش جيب الجاكيتة التي يعلقها بدون ان يعلم هذا العامل

اتفقنا أن نترك هذا الأمر وأن نعتبره أول وآخر مرة والحمد لله أن المسروق لم يكن شيئا ثمينا وبدأت أرتب أشيائي ولا أتركها مبعثرة معرضة للسرقة

(( احساس بالمسئولية ))

** وفي اليوم التالي عندما حكيت هذا الأمر الى الست ساهرة أبدت أسفها الشديد ووجدتها تأخذ الموضوع بكل اهتمام وكأنها مسئولة عن ذلك باعتبارها عراقية ، فقد كانت تقول لي ان العراقيين نادرا ما تحدث بينهم السرقات فالتجار في السوق بالشطرة يتركون بضائعهم ليذهبوا الى منازلهم ساعات الغذاء بلا خوف من السرقات .

** وفي اليوم التالي وجدتها تأتي لي براديو صغير تقول لي خذ هذا الراديو استعمله بدل الراديو المسروق ، أخذت منها الراديو ولم أرفض عرضها لأنني أعرف أن عرضها ليس عزومه وما شابه ذلك وانما هو عرض جاد

** استعملت هذا الراديو لمدة يومين تقريبا ثم اشتريت راديو آخر مشابها تماما للراديو المسروق حتى انسى ماحدث

(( أثر هذه الحادثة ))

** لم تؤثر هذه الحادثة كثيرا في انطباعي عن اهل القرية واعتبرت أن ما حدث قد يكون من شخص لديه داء السرقةومرت الأيام عادية جدا بالاستمتاع بالتجول في القرية والسهر مع الجيتار أو بالتسامر مع الأهالي الذين يدعوننا على العشاء ، أو الذهاب الى الأعراس والمناسبات السعيدة

(( علم العراق ))

** أذكر أنني احتجت لقطعة من القماش لمسح الترابيزة فلم أجد أمامي إلا بقايا علم قديم وبمجرد أن امسكت هذا العالم ، صاحت احدى المعلومات بفزع شديد ، وقالت لا تفعل ذلك ، هذا علم . أحسست بحرج شديد ، ولم أطيل في الأسف حتى لا يتضخم الأمر .

(( في قرية آل عواد ))

** أذكر أنني في أحد الأيام عندما كنا في زيارة للقيام بالعزاء في القرية المجاورة آل عواد تناولنا الغذاء المكون من الرز ولحم الغنم ، وقد طلب الاستاذ حسن أن يعطوني ملعقة لأنني لا أعتاد على استعمال اليد مثلهم في تناول الارز ولكني فضلت أن أفعل مثلهم وركزت على  تناول اللحم دون الاكثار من الارز الذي يصعب تناوله بدون ملعقةوبعد الانتهاء من حضور الاربعين تجولنا في القرية ووجدت فيها أجمل المناظر الريفية التي أتذكرها حتى الآن

** نهر صغير يشق القرية الى نصفين قريبين جدا من ضفاف النهر وعلى طول القرية توجد جسور مصنوعة بطريقة بسيطة جدا وهي اثنان من جزوع الأشجار العالية يمتدان متوازيان بعرض النهر  وعليهما توضع ألواح من الأخشاب وكأنها فلنكات السكك الحديدية وبمرور الوقت امتلأت المسافات بين الألواح الخشبية بالطين ، والطين سقته المياه التي يأتي بها النسوة اللاتي تجمعن الماء النقية من منتصف النهر  ، فأصبح الجسر بمرور الوقت لونه أخضر بالنجيل المزروع به طبيعيا .

** هذا بالاضافة الى الدجاج والبط والوز والرومي ( الفسيفس)

** بالاضافة الى لمسات شرقية بسيطة رقيقة ليست صاخبة مثل صورة نخيل وجمال تعبر عن مزيج جيد متكامل من البيئة الريفية والبدوية .

** كل ذلك يعطي لوحة فنية رائعة مجسمة بالوان وأشكل وروائح وأصوات أيضا اعتبرتها أجمل اللوحات التي شاهدتها بالعراق

** ومن أجمل الروائح التي أحببتها بالقرية روائح الخبز أثناء تسويته بالأفران وكأنها ايزانا للجميع بتناول الغذاء  

(( مواقف مع أهل القرية ))

** في أحد الأيام وأثناء سيرنا بين الأراضي المحيطة بالقرية وجدنا شابا يتتبعنا كما لو كان يتجسس علينا  وعندما مر بنا لم يؤدي التحية كما يجب ثم قال لنا ما معناه ماذ تقصدون من سيركم بجوار النهر الذي تملأ منه النساء ، ورد عليه الاستاذ حسن ردا طمأنه وعرفنا بعد ذلك أنه كان يغير على  محبوبته بالقرية من الاستاذ حسن

** في يوم آخر من الأيام الأولى من الفصل الدراسي الثاني وأثناء وجودنا عصرا في المدرسة مع الاستاذ حسن وجدنا باب المدرسة يدق بعنف وجدنا رجلا ريفيا يلبس الملابس الرسمية الكاملة ويمسك في يده ( المجوار ) وهو مثل العصا القصيرة  وهي تستخدم في العراك وفي الأناقة ايضا في بعض الأحيان

وقال من هو الاستاذ حسن رد عليه وقال له : أنا الاستاذ حسن ماذا تريد

رد عليه الرجل بعنف وهو يحمل المجوار ويرفعه قليلا بيده ابني في الصف السادس وهو ولد ممتاز لكنك رسبته في مادة الزراعة )

رد عليه الاستاذ حسن بهدوء : مهلا عليك هل انت قادم للتفاهم أو للعراك

بدأ الرجل يهدأ قليلا ووقال له الاستاذ حسن ( هيا نتحدث في المكتب )

ثم فتح مكتب المدير وجلس على المكتب وجلست انا بجواره وبدا يعر الرجل شكواه

فقال له الاستاذ حسن ( أنا حزين أكثر منك على هذا الولد لأنه فعلا ذكي ولكن الأمر ليس بيدي فالاستاذ هادي دائما يراجع على التصحيح على العموم أن مادة الزراعة لا تضاف الى  المجموع

** خجل هذا الرجل من مسكه المجوار  وألقاه على الأرض و وتطور الحديث الى أن خرجا من كل الموضوع بأنه والاستاذ حسن أقارب وتربطهم صلة قرابة ونسب من بعيد

وبعد مغادرة هذا الرجل المدرسة نظر الي الاستاذ حسن وقال لي لو انا تصرفت باندفاع في البداية لتطور الأمر الى عراك لكني أدركت أن هذا الر جل ريفي  سوف يصفو قلبه بسهولة  بمجرد ان تعطيه قدرا من الاهتمام

** لاحظت أن معظم الأحاديث مع الاستاذ حسن  تنتهي بظهور قرابة حتى قلت له ذات يوم انك لو تحدثت مع مصري ستنتهي الى وجود صلة قرابه معه

** من الاحداث التي تدل على طيبة أهل القرى أن أحد من العراقيين كان يقف على الطريق منتظرا سيارة وعندمل لاحظ أن كلبا ينبح بشدة  تجاحي  توجه الي لكي يهدئ الكلب ثم رجع مرة أخرى الى طريقه

** ومنهم من كان يحذرني من التحدث بسلامة نية في السياسة حتى ولو كان هذا الشخص امرأة

** ومن الأولاد من كان يعبر عن رغبته في العمل بالمخابرات وعندما قلت له أن هذا العمل قد يجعلك مكروها بين الناس فقال لي : هذه هي سنة الحياة أن يكون الشخص مكروها من بعض الناس – أعجبني هذا الرد لأنه من طفل صغير .

** ازدادت صحتي تحسنا وأصبحت أقضي أيامي في متعة في العمل وفي التعامل مع البسطاء والتجول في الطبيعة الجميلة والعزف على الجيتار

وأصبحت رسائلي أكثر انتظاما في كل يوم جمعة

** وكنت أتذكر اسرتي في جميع المواقف السعيدة واتمنى سعادتهم

وعندما كنت اشاهد منظرا جيدا اتذكر زملاء المرسم واراسلهم ويراسلونني أيضا

في ليلة الخميس وفي ايام الاجازات كثيرا ما كان يدعوني الاستاذ حسن للمبيت في بيته  ربما يكون ردا على استضاتفتي له بالقرية

(( في منزل الاستاذ حسن ))

** أصبحت معتادا على بيته كما لو كان بيت احد اقاربي الذين اعتاد الذهاب اليهم وكنت أداعب ابن أخته وهو في سن الحضانة واذكر انه غضب من بيت جده فأخذ ملابسه وجمعها في كيسة واستعد للرحيل

ضحكنا كثيرا على ذلك الطفل وتذكرت احد أقاربي الذي في نفس سنه والذي اعتدت على مداعبته وتقديم الهدايا له والحلوى

** من الصفات الجيدة التي لاحظتها في الاستاذ حسن وغيره احترام المواعيد ونادرا جدا ما يخالف الميعاد

وعندما حدث أن انتظرت الاستاذ حسن ولم يحضر في ميعاده المتفق عليه علمت بعدها أن المانع كان قوي جدا فكأن أحد جيرانه من حزب البعث اكتشفوه مقتولا في ذلك اليوم وجاء البوليس وكان الاستاذ حسن من المستهدفين لأن له اخ معتقل ولأنه من المعارضين سابقا

(( زيادة الثقة ))

** وصلت الثقة المطلقة من الاستاذ حسن لدرجة أنه أطلعني على المكان الذين يخبئون فيه مفتاح البيت كما أطلعني على مذكرات شخصية فيها مدح للحزب الشيوعي ، ومذكرات أخرى مزيفة يقول فيها أنه لم يعد شيوعيا وأن الشيوعية لها عيوبها وكانت هذه المذكرات المزيفة يعدها  لكي تمنع عنه الشبهات عندما يقبضون عليه ويفتشون حجرته 

** كما يطلعني على رسائلة المتبادلة بين الفتاة التي يحبها وهي رسائل مكتوبة باللغة العربية الفصحى وكأنها بين اثنين من الادباء .

** ومن مذكراته وأحاديثه عرفت أن اثناء وجوده في بلغاريا تعرض لعصابة تقتحم مسكنهم للسرقة وفي أثناء الظلام كان بيده آلة حادة خاصة بقطع الطعام ... أشهر هذه الآلة في وجه اللصوص فاصابت احدهم  اصابة خطيرة استدعى البوليس الاستاذ حسن مع بعض من رفاقه وحكموا عليهم لمدة قصيرة عدة اسابيع لحين الانتهاء من التحقيق  ثم أفرجوا عنهم بعد فترة خوف وقلق ، وكان يحكي لي ان هذه الحادثة رغم قسوتها إلا أنه تعلم أن الاوروبيين  يحترمون الانسان حتى ولو كان مجرما .

عرفت أيضا أن الاستاذ حسن قد تخلى عن الحزب الشيوعي واصبح مستقلا ولكنه لم يقبل الانضمام الى حزب البعث مثل أكثر العراقيين وأن عدم انضمامه الى البعث يشكل نقطة سوداء تؤخذ عليه عند الحكومة

** في أحد الايام يصطحبني الاستاذ حسن لاحدى حفلات الزواج  بالمدينة ولاحظت أنها تأخذ الطابع الرسمي فالنساء في مكان والرجال في مكان آخر ولابد من تقديم الطعام وهو الارز ولحم الغنم

ولكن يبدو أن ظروف الحرب قللت من بهجة أفراحهم لأن كثير من الأسرات لديهم شهيد أو مفقود أو أسير في الحرب العراقية الايرانية .

(( قدوم سيارة غريبة للقرية يثير الرعب ))

** وكنت ألاحظ أنهم يشعرون بالرعب كلما اتت سيارة غريبة الى قريتهم لأنه قد تكون قادمة لابلاغهم باستشهاد أحد أبنائهم وكانوا يرتعبون أيضا من قدوم عسكري غريب الى القرية فقد يكون هذا العسكري قادما لابلاغهم عن استشهاد أحد ابنائهم وأصبح اللون السائد عند كثير من العراقيات اللون الأسود

** كنت ارى أن العراقيين بطبيعتهم أكثر ميلا الى الحزن ويبالغون فيه وجاءت الحرب فازادتهم حزنا على حزنهم . 

(( سحلية على صورة صدام حسين ))

** اصطحبني الاستاذ حسن لأكثر من مرة الى مقهى شعبي ( قهوة خلف ) وعندما سألته عن سبب تفضيله للمقهى عن غيرها قال أن المقاهي الأخرى بها حزبيين لا يرتاح اليهم ويخشى منهم ، وذات مرة أشار لي على سحلية تمشي على صورة لصدام في المقهى وقال لي أن صاحب المقهى يخشى عليه نتيجة سماحه  للسحلية بالمرور على صورة صدام حسين . وأثناء التسامر معه على المقهى قال لي أنني لايجب أن أقول أن فلان شطراوي بل نقول فلان شطري وذلك لأن الشطراوي تعني الحذاء الشطراوي لأن مدينة الشطرة مشهورة بصناعة الأحذية والمشغولات الجلدية ، كما ارشدني أيضا الى طائفة بالعراق يدينون بدين غريب به تقديس للماء وهم متعصبون جدا لدينهم ومنعزلون اجتماعيا ولكن لايظهرون هذا التعصب لقلة عددهم وهم يفضلون بعض الأعمال الخاصة مثل تجارة الذهب والمجوهرات .

(( البحث عن صاحب المحل ))

** وعن سوق الشطرة فقد ذهبت يوما لشراء شيء ما ولم أجد صاحب المحل ونظرت بجواره يمينا ويسارا وابعد من ذلك فلم أجد أحدا أسأله عن صاحب المحل وعلمت أنها ساعة غذاء والجميع ترك بضائعه في أمان وبدون خوف من السرقات ، تعجبت لذلك رغم أن العراق تمر بحالة حرب وأن ظروف الحب لابد وأنها قد سببت ارتباكا في كل أسرة 

(( أمطار ثلجية في الربيع ))

** بدأ الربيع وأصبحنا على مشارف الصيف وفي أحد الأيام أحسست بسخونة غير عادية في الجو أعقبها سقوط الثلج ، وتعلمت من ذلك حقيقة كنت أدرسها للتلاميذ وهو أن  تساقط الثلج يصاحبه دفء في الهواء نتيجة فقد طاقة حرارية أثناء تكثف بخار الماء ثم تجمده

(( عاصفة ترابية – العجة ))

** وفي يوم آخر وأثناء تجولي بالقرية شاهدت في الأفق خط أسود بطول الأفق بدأ الخط يزداد سمكا شيئا فشيئا حتى بدأ يغطي قرص الشمس  ، نصحني أهل القرية بالعودة الى سكني لأنها كانت عاصفة ترابية سوف تمر وتأخذ ترابها معها ولا تترك منه شيئا ، أتذكر أن في ذلك اليوم  أصبح الظهر بدون شمس اطلاقا وكأنه نصف الليل . وعرفت بعد ذلك أن هذه العاصفة تسمى العية  وأحيانا العجة وأحيانا العجاج

(( تسجيل خطبة ))

** وفي نهاية العام الدراسي كثرت الاحتفالات وشاركت فيها بالغناء أو بالخطب  وسجلت عديد المناسبات بواسطة المسجل الصغير كما سجلت غنائي وغناء الطالبات للاغاني الشعبية الى جانب صور تذكارية مع الزميلات العراقيات بالمدرسة . وعندما ذهبت الى بغداد جمعت شرائط الاغاني لفحصها في هيئة مخصصة للمراقبة على التسجيلات والمطبوعات وأخذت موعد لاستلامها واستلمتها وضممت معها شرائط أخرى تذكارية لم أعطها لهم خوفا من اثارة الشك في المحادثات التذكارية مع الزملاء .

(( اعتذار واعتراف بالسرقة ))

** وفي أحد الأيام بالقرية فوجئت بشاب من القرية في المرحلة الثانوية من الشباب الذين كنت أصادقهم  يقول لي ما معناه : سوف أحكي لك شيئا أرجو أن تعتبره سرا بيني وبينك واعترف لي بأنه هو الذي سرق الراديو وعبر عن ندمه لهذه الفعلة  واستحلفني أن أسامحه على ذلك ولا اقول لزملائه – سامحته وانتهى الأمر .

(( توديع القرية ))

** وأتذكر آخر أيام العام الدراسي كنت أنظر الى كل شيء بالقرية وكانني أودعه ، اودع الكبار والصغار والأرض والزرع والنخل والحيوانات ومنهم الحصان المربوط بشجرة ومعلق به جرس أسمعه كل صباح

(( المراقبة في لجان الامتحانات ))

وشاركت في امتحان الثانوية العامة  باحدى مدارس المدينة ولاحظت أنهم يجمعون أوراق الاجابة ويضعونها في كيس قطني يشبه كيس المخدة ويقوم رئيس اللجنة ومعاونيه بخياطته جيد ثم لصق ورقة وعليها البيانات والتوقيعات وتلصق طوابع البريد عليها ثم ترسل الى اقرب مكتب بريد يقوم بتوصيله الى الكنترول ، وتشمل لجنة التغليف عدد من الملاحظين و أثنان من الطلاب يوقعون ايضا على محضر التغليف

** وكانت الملاحظة في الامتحانات  من الأعمال الشاقة جدا وخاصة في الجو الحار وعدم السماح للملاحظ بالجلوس على كرسي وكنت أضطر أن اجلس خلسة على كرسي من كراسي الطلاب بعض الوقت .

** لم أنسى شراء بعض الهدايا البسيطة لأخوتي والاصدقاء في مصر وحرصت على أن تكون صناعة عراقية .

** اشتريت حقيبة كبيرة من الشطرة وجمعت فيها الهدايا التي كنت اشتريتها كلما ذهبت الى بغداد ومنا مشغولات نحاسية او صوفية

(( العودة الى مصر ))

** وللعودة الى مصر لم افكر اطلاقا في الطريق البري حيث أقسمت بيني وبين نفسي على ذلك منذ بدء قدومي للعراق ، حجزت ترانزيت الأردن شركة عالية وعندما صعدت للطائرة وجدت اندفاعا شديد من المصريين الذين كانوا يرتدون الجلاليب وكأنهم يصعدون الى عربة كارو ، وفجأة لم أجد مكانا في الطائرة مما اضطرني للنزول منها الى أرض المطار مع بعض الرفاق الذين لم يستطيعوا التزاحم والحصول على مكان .

وتمت الاتصالات بين شركات الطيران ووجدنا أخيرا مكان في طائرة اخرى تابعة للشركة العراقية صعدنا الى الطائرة بكل هدوء وجلسنا بكل هدوء واحترام حتى وصلنا الى الأردن ثم اتجهنا الى  الطائرة الأخرى التي سوف توصلنا الى القاهرة

** لم أخبر أسرتي تفصيلا بموعد عودتي حتى لا أشغلهم واسبب لهم ارتباكا  وكان ذلك التصرف به حكمة بسبب المفاجآت التي كانت تحدث وخاصة لأنه لم يكن خط مباشرالقاهرة بغداد للظروف السياسية في هذه الفترة  .

** وصلت الى القاهرة وبدأت أبحث عن السوبر جيت أو غرب الدلتا وأحسست أن لهجتى كانت متغيرة فكنت أقول الباص بدلا من الاوتوبيس وغير ذلك .

وصلت الى الاسكندرية وركبت تاكسي من محطة الرمل الى محطة الرمل مسافة صغيرة ورغم الاتفاق على ثمن محدد الا ان السائق طلب المزيد عند وصولي واعطيته ما طلبه لأنني لم أكن في حالة لا تستدعي التفكير في المال

** كنت مرهقا بشدة من السفر وحمل الحقائب وبدأت لحظات الاستقبال ولم تكن عناقا وسلاما باليد بل كان العناق والسلام بالقلب وبالمشاعر الحميمة والتي انفردت بها اسرتي عن غيرها حيث كنا لا نجيد عبارات السلام والتحية

(( السؤال عن جدتي أم والدي  ))

** سألت عن كل فرد من العائلة وعرفت ان جدتي أم والدي قد توفيت ، وكنت متوقعا ذلك لأنني لم ألاحظ التحدث عنها في الرسائل التي وصلتني من الأسرة مؤخرا ، تأثرت كثيرا وشعرت بأن نفسيتي محملة بكثير من الأعباء التي لا تجعلني اتحدث جيدا فكنت كثيرا ما أستخدم كلمات عراقية لأنني كنت مازلت في حالة مضطربة وغير مستقرة ، وجدت أخوتي ومن حولي يشكون من الحر وأنا أندهش كثيرا لكلامهم عن الحر فإنني أشعر بأن الجو مكيف بالنسبة للجو في العراق .

** بعد عدة أيام بدأ الاستقرار النفسي وأسرعت لشراء تليفزيون ملون ولم يكن معي إلا دولارات وأتذكر أنني أعطيت للتاجر خمسمائة دولار لياخذ منها ما يأخذ ثمن التليفزيون كما اشتريت اشياء أخرى مثل المروحة وترابيزة بعجل وغيرها من الأشياء البسيطة ، ولاحظت أن أمي تقول لي ( ان الحاجات دي تبقى تاخدها في بيتك انشاء الله)  ، لم أهتم بهذا الكلام ولم أكن مقتنعا به وكنت مقتنعا فقط بأن الشيء الناقص لابد أن يكتمل

(( النزول مع والدتي لشراء هدايا للعراقيين ))

** وبعد عدة ايام اخرى نزلت مع والدتي لشراء بعض الهدايا للزملاء العراقيين ومنها علب مصدفة وتماثيل فرعونية وأخرى عن البيئة المصرية الشعبية وعدة مصاحف ، ولاحظت أن والدتي تجيد اختيار الهدايا المناسبة ، وأنها كانت تعرف الأماكن التي تبيع الهدايا المناسبة

** وتعمدت أن اذهب مع اسرتي الى المعمورة كي يستمتعوا بالبحر وغير ذلك من الأماكن لتعويضهم عن فراقي لهم مدة طويلة .

** وبدأت اتواصل مع اصدقاء المرسم والموسيقى في تلك الفترة القصيرة

** كما بدأت أتواصل مع أصدقاء الكلية ومنهم ناصر الذي كان يعمل بالسعودية في متجر تابع لزوج أخته السعودي ، ومصطفى الذي استلم عمله في وزارة الصحة

** وقضيت أجازة صيفية لا بأس بها ولم أشعر بحرارة الجو التي يشعر بها الآخرين وكنت أندهش عندما أجد الاخرين يشكون من الجو الحار في الاسكندرية ، وكان ذلك لأنني ذقت حرارة الجو الصيفي في العراق .

** وبدا الاستعداد للعودة مرة أخرى للعام الدراسي المقبل بالعراق  

السنة الثانية بالعراق 1982-1983

** غادرت المنزل بحقيبتي الكبيرة وحقيبتي السمسونيت ومعي في هذه المرة أخي الذي سيرافقني حتى مطار القاهرة وأهم ما أذكره في هذه الأثناء – قبل تحرك الاوتوبيس من محطة الرمل – هي الدموع التي كنت أحبسها عندما كنت أشاهد والدي وأختي الصغرى عبير من خلال شباك الاوتوبيس ، كتمت هذه الدموع بشدة وبضغط نفسي كبير اعتدت عليه من قبل ، ولكن بمجرد أن تحرك الاوتوبيس لم أستطع التحكم في نفسي وانهمرت دموعي غزيرة ولاحظ أخي ذلك ومكثنا صامتين بداخل الاوتوبيس لمدة تزيد عن ربع ساعة حتى بدأت أنا الحديث .

** وسار الاوتوبيس في طريقه الصحراوي وأصبح كل شيء عاديا وعندما وصلنا الى المطار دخلت الصالة وسلمت على أخي سلاما عاديا كما اعتدت حيث كان السلام والعناق في أسرتنا بالعيون وبالقلوب وليس بالأيدي والقبلات ، ومضيت في طريقي بداخل الصالة وقابلت أحد الزملاء من العام الماضي وشعرت حينئذ  كأنني وصلت أخيرا الى العراق صعدت الى الطائرة العراقية والتي كان بها اجراءات امن مشددة لدرجة مقلقة  ، جلست كالعادة بجوار شباك الطائرة وفي هذه المرة شاهدت معالم الطريق واضحة رغم أن الوقت كان بعد العصر .

** كانت هذه المرة هي رابع رحلة طيران فأصبحت لدي خبرة في تمييز خط سير الطائرة ، فأدركت أن الطائرة أخذت مسارها فوق الصحراء الشرقية الى خليج السويس وفوق سماء الخليج أخذت مسارها جنوبا الى جزر تيران ثم شمالا فوق خليج العقبة ثم طريقا مستقيما عبر الأراضي السعودية او الاردنية الى العراق

** ومن الملاحظات التي شاهدتها هي جبال البحر الأحمر وما بينها من وديان تتوسطها شقوق متفرعة وكأنها آثار لروافد أنهار سابقة صنعتها السيول  

** لاحظت أيضا لون المياه الذي يتدرج من الزرقة القاتمة الى الخفيفة تبعا لنوع الصخور وعمق المياه ، والشعلات التي تنتهي بدخان أسود وهي تخرج من حقول البترول

والسفن التي اصبحت مع شدة الارتفاع وكأنها نقطة تجر ورائها خطان من الأمواج تدل على مسارها 

والسحب الكثيفة بجوار الأماكن الساحلية ونتيجة لارتفاع الطائرة تبدو السحب وكأنها ملتصقة بالأرض حيث أن ارتفاع الطائرة يبلغ أكثر من عشرة أضعاف ارتفاع السحب

** وعندما كانت الطائرة تميل أثناء تغيير اتجاهها تبدو الأرض وكأنها بجوار الشباك فيظن بعض الجالسين أن الطائرة تسير بين الجبال ، وللأسف الشديد كان هذا الظن من أشخاص متعلمين ومدرسين أيضا ولكن ينقصهم التفكير الدقيق المنظم

** شاهدت أرض سيناء وجبالها وتمنيت لو انخفضت الطائرة قليلا لكي أراها بالتفصيل

** عندما وصلت الطائرة الى قرب الحدود العراقية بدأت الشمس في الغروب فظهرت ظلال الجبال طويلة خلفها بدرجة تفوق طول الجبال ، عندما أشاهد ذلك أتخيل نفسي تارة في المنطقة المظللة التي هي أسبق بالتأكيد في ليلها وعلى عكسها المناطق التي في الجهة المجاورة للشمس

** لم أستطع أن أنام مهما كان احتياجي للنوم فالمشاهد تثير الأفكار ، والأفكار تفسر المشاهد .

** عندما أنظر الى الأرض من خلال الطائرة أجد الانسان في هذه المساحات الشاسعة يبدو أصغر من الميكروب  الذي نستهين به

** أما عندما أعيد النظر مرة أخرى الى البشر الجالسين في الطائرة  وجسم الطائرة المليء بالمحركات والتجهيزات أقول أن الانسان ليس ميكروب بل هو مخلوق جبار أعطاه الله فكرا يستطيع أن يحدث تغيرات كثيرة في الكون .

** عندما وصلت الطائرة الى الأراضي العراقية أمرنا المضيفون بغلق ستائر جميع النوافذ ويبدو ذلك لأسباب أمنية ورغم ذلك كنت أفتح الستارة خلسة لكي أشاهد معالم الطريق

** وصلنا الى العراق ليلا كما هو مخطط لجميع رحلات الطيران في ذلك الوقت

** لم تكن معي دنانير كافية للذهاب الى  قلب العاصمة بواسطة تاكسي خاص سألت بعض المصريين على أسعار الدينار بالدولار وجدت اجابات مضللة فعزمت ألا استبدل الدولارات من هؤلاء المستغلين .

** وشجعني زميلي بأن نقضي الليلة بالمطار على كراسي الكافتريا لحين الصباح ويبدأ سير الاوتوبيس العادي الذي سعره بسيط جدا بالنسبة للتاكسي أو غيره

(( زحام الأفكار ))

** ولم يكن جلوسي في المطار حتى الصباح من أجل الاقتصاد والتوفير ولكنني وجدت نفسي أمام زحمة أفكار كثيرة فأنا اليوم قضيت بعضه في الاسكندرية وبعضه في القاهرة وبعضه في بغداد انه يوم طويل حقا بتنوعاته وتغيراته .

** وتارة أتعجب  للأجازة القصيرة جدا والنقلة السريعة من مناخ الاسكندرية الى مناخ العراق الحار الخانق ، ثم أتعجب للدوامة التي أقع فيها وهي دوامة السفر والعمل ، نعم انها دوامة لا أمان لها

** انها دوامة تسلب الانسان كل ارادته وقوته

** أفكار وأحاسيس عميقة ثم تأتي فترة تخدير للفكر ونتناول الشاي والبيبسي  ونتبادل الأحاديث حول العمل وندخل في الدوامة – دوامة الحياة .

(( الذهاب الى فندق زين القوس في بغداد لأخذ قسط من الراحة ))

** ذهبت مع زميلي الى بغداد في الصباح الباكر وهناك افترقنا حيث ذهب هو ليركب الاوتوبيس الى الشطرة ( مكان العمل ) أما أنا فاتجهت صباحا الى فندق زين القوس ببغداد من أجل اراحة جسدي من تعب السفر والسهر ، دخلت الى الفندق في الصباح الباكر ولم يكن أمامي بالفندق إلا عم شعبان وهو الرجل الصعيدي الذي يعمل بنظافة الفندق ، سلمت عليه وأظهرت له أنني جئت توا في الصباح وأريد ان أحجز ليلة بالفندق ، قال لي على الفور ما معناه : لا أماكن بالفندق ، سألته عن أبو عمار وهو رجل عراقي ايضا يعمل بالنظافة  قال لي ان أبو عمار ما بيجيش ، وبعد دقائق قليلة من وقفتي بالفندق بجوار حقائبي جاء أبو عمار وسلمت عليه بحرارة وفي الحقيقة أن هذه الحرارة لم تكن حرارة اشتياق بقدر ما هي حرارة انقاذي من هذا الشخص الحقود ، بادلني ابو عمار الحديث وسألني عن أحوالي بالاجازة الصيفية وأهديته مصحفا أخذ هذا المصحف وقبله وبدون كلام وجدته يدخل غرفة رقم 1  ويعد لي فراشا لكي أرتاح من عناء السفر .

** دخلت الغرفة وغيرت ملابسي وأخذت حمام واستلقيت على السرير ونمت قليلا وشعرت بزوال كل التعب والأرهاق وأعطيت أحد عمال الفندق بعض الدولارات لاستبدالها بدنانير عراقية  ولم أدقق على الثمن وعندما حصلت على الدنانير حاسبت ابو عمار

** غادرت الفندق قبل ظهر ذلك اليوم وذهبت في رحلة سفر الى ذي قار التي تقع بها المديرية التي أعمل بمدرسة تابعة لها كانت هذه الرحلة أكثر مشقة من رحلة السفر من الاسكندرية الى القاهرة الى بغداد .

** في ذلك اليوم بعد نزولي من الاوتوبيس أمام المديرية وجدت الاوتوبيس يتركني ويسير مسرعا دون أن آخذ حقائبي التي تحمل كل شيء عدا الأوراق الرسمية التي أحملها بحقيبتي السمسونيت

ولولا تلويحي للأوتوبيس ولولا ازدحام الطريق لفقدت الحقيبة بكل ما فيها من ملابس وهدايا ، وقفت السيارة مع غضب شديد للعامل ، كنت مقدر هذا الغضب لأنه من المفروض أن أنزل في آخر الخط طالما كانت معي حقائب

** أخذت حقيبتي وشعرت أنني نجوت من ازمة كادت تحدث  وهي ضياع الحقيبة وخاصة ان سيارة الاوتوبيس لم تكن تابعة لشركة معروفة ولا توجد لها تذاكر .

** في المديرية أتممت الاجراءات الخاصة بعودتي ثم رجعت الى مدينة الشطرة التي تبعد عن المديرية ب40 كيلو متر .

(( الوصول الى مدينة الشطرة ))

** وفي مدينة الشطرة اصطدمت بمشكلات جديدة وهي السكن ، سكنت مع أحد الزملاء في فندق الجوادين وهو من أواخر الدرجات في الفنادق ومنه الى فندق آخر أحسن قليلا  وفي الحقيقة أن هذه الفنادق لم يكن بها مكان على على السطح أي أنني كنت انتقل من سطح فندق الى سطح فندق آخر ، فكانت الغرف لا يسكنها إلا سكان دائمين

** قبلت التنقل بين الفنادق القذرة لأنني لا استطيع  السكن في القرية إلا في أثناء الدراسة  وتحملت الكثير على أمل العودة الى القرية بعد اسبوعين أو ثلاثة

** في هذه الفترة ذهبت لزيارة صاحبي حسن جعفر المدرس العراقي – ولكن في هذه المرة لاحظت أنه في غاية القلق من هذه الزيارة حيث علمت أن أخاه قد أعدموه بتهمة  تبعيته الى حزب الدعوة التابع لخميني ، ولكن أسرته مازالوا متوقعين أنه لم يعدم وقد يكون هذا الادعاء من أجل تخويف الآخرين

** كذلك فإن له أخ أسير – وهو بالتأكيد موضوع تحت المراقبة  لانتمائه سابقا الى حزب شيوعي

** كل ذلك بالاضافة الى انه في هذه المرة كان متزوجا وله التزامات الزواج التي لا تجعله على استعداد لاستضافتي كثيرا كما في العام الماضي .

** عندما ذهبت اليه استقبلني استقبالا عاديا وشعرت أن حالته النفسية غير عادية وأن معنوياته منخفضة ، سألته عن أحوال أسرته وخاصة والده الذي كان مريضا ، وعلمت أن أخاه الذي كان مفقودا أصبح الآن أسير عند الايرانيين  .

** لم اطيل الحديث معه في هذه الاحداث واكتفيت بالاستماع

** وعندما أتى والده لتحيتي أعطيته هدية مصحف وأبدى اعجابة بالهدية  وقال لي في الحال : انها أفضل هدية

ثم أعطيت الاستاذ / حسن مجموعة من الهدايا وهي مجموعة من البراويز  الصغيرة والتماثيل الخشبية  الصغيرة وكلها تعبر عن مصر وكانت معظمها من اختيار والدتي .

** بعد ذلك ذهبت الى القرية ( قرية آل حسن ) حيث المدرسة  ولم يكن بالمدرسة احدا ، فذهبت الى منزل المديرة وهو بداخل القرية وفي منزلها جلست على الأرض بغرفة الاستقبال  وقدمت لي مشروبا  للتحية وأعطيت لها بعض الهدايا  التي أتيت بها  من مصر وطلبت منها عمل الاجراءات اللازمة  لاستلامي العمل ، وطلبت مني  أن أحضر في يوم معين لانهاء تلك الاجراءات  وتم ذلك بالفعل

** وعندما كنت أذهب الى القرية في هذه الايام كنت أتمنى أن تمر الايام بسرعة وتأتي أيام الدراسة لكي أقضي أكثر الأوقات بالقرية ، ففي القرية كنت أشعر بأنني أمارس حياة طبيعية ليست بها اغتراب عن الوطن ، فالاشخاص الذين أتعامل معهم بالقرية  يبدون لي مثل الأقارب أو الاصدقاء في مصر

أما الأشخاص المصريين الذين كنت أتعامل معهم بالفنادق الصغيرة كانوا يبدون لي مثل الآلات المطلوب منها عمل معين  وليست بينهم اي علاقات اجتماعية

**انتهت مشكلات السكن بأن سكنـت  في أحد المنازل الذي يؤجره صاحبه ( السيد جمعة )  للمصريين بسعر 15 دينار للفرد في الشهر يساوي هذا المبلغ سعر الفندق  مع فارق كبير في النظافة والاستقلالية

** فالمنزل يحتوي على أربعة حجرات  وفناء به حديقة صغيرة  أخذنا غرفة تسع أربعة أفراد مكثنا في هذا المنزل فترة مريحة جدا ولكن كما تعودنا فإن الراحة لم تدوم منذ سفري الى العراق  فكأن كل راحة تعني بدء مشكلة جديدة

** يأتي  مدرسون جدد معينين من مصر يدلهم زملائهم على منزلنا فيسكنون في الغرفة  الرابعة التي كانت لم تشغل بعد

** ينتقل هؤلاء  المدرسين  مع آخرين في منازل أخرى أما مجموعة غرفتي كانوا رافضين اطلاقا

** وفي الحقيقة كان منهم من يؤيد  الانتقال الى منزل آخر ولكن رفضي القاطع كان له الأثر في عدم انتقالهم 

** كنت أرفض جميع العروض بالانتقال الى منزل آخر لأنني قد تأقلمت على هذا البيت وقربه من الشارع وكنت قد اشتريت حاجات كثيرة مثل الاطباق والاكواب والأواني وكلها من أجل توفير حياة طبيعية

** في أحد الأيام حدثت مشكلة في  أحد منازل المصريين ملخصها فضيحة اثنين من المصريين يمارسون الشذوذ الجنسي ترتب على هذه الفضيحة ابعاد كل من الاثنين عن المنزل فأصبح العدد قليل ويستلزم أن تبحث المجموعة عن شخصين آخرين لكي يشترك كل في دفع الايجار

** اقترحوا علينا أن ننضم معهم  ونستأجر منزلا مستقلا  يضمنا كمجموعة مستقلة من  المدرسين

** هؤلاء المجموعة قصدونا نحن بالأخص  لأن منزلنا كان معرضا  لتغير السكان  لأن صاحبه يؤجره مثل الفندق  ولسنا ملزمين بدفع ايجار ثابت للمنزل كله

** لم أوافق في بادئ الأمر على هذا الاقتراح لأنني غير مستعد للخوض في مشكلات جديدة  ويكفي أنني تعرفت على زملائي الثلاثة بالغرفة  وبدأت أعتاد على جميع سلبياتهم

** ولكن بعد الحاح شديد  وبعد ان عرضوا علي هذا الأمر كخدمة انسانية وافقت وعزمنا على الرحيل واستأجرنا سيارة نصف نقل لنقل حاجياتنا  وتركنا الغرفة مهملة  وبدون اعطاء خبر سابق  لصاحب المنزل رغم أنه كان عندنا في اليوم السابق

** وحتى لا يؤنبني ضميري اعتذرت له في يوم آخر على ترك الغرفة مهملة بشكل غير طبيعي

** عندما وصلنا الى المنزل الجديد وأثناء انزال الأمتعة من السيارة وجدنا أحد الجيران العراقيين يأتي الينا ويطلب منا الرحيل فورا من هذه المنطقة ، قائلا لنا أنه لا يصح أن يسكن في هذه المنطقة عزاب – كانت صدمة كبيرة لنا – أصبح موقفنا صعب  فنحن لا نستطيع ان نرجع  مرة اخرى الى المنزل  الذي تركناه  بطريقة غير ذوقية ، كذلك فإننا لا نستطيع أن نسكن مرة ثانية  على أسطح  الفنادق القذرة وأهم من كل ذلك أن التراجع دائما صعب على الانسان .

** كان الرجل العراقي مصمما على مطلبه ، وكنا لا نقل عنه تصميما على عدم الانتقال ، ولكننا كنا نخفي هذا الاصرار  الشديد من جانبنا  وتبادلنا الحديث بهدوء  وأوضحنا له أننا كلنا مدرسين كما أن صاحب البيت مدرس أيضا عراقي  ولولا ثقته فينا  لما وافق لنا على تأجير هذا المنزل ، وبدأ الرجل العراقي يوضح لنا  سبب رفضه  لسكننا وهي التقاليد العراقية وأن هذا ليس رأيه فقط بل رأي جميع السكان العراقيين في هذه المنطقة .

** ثم بدأ الحديث يأخذ شكل حوار هادئ عن التقاليد العراقية والمصرية

** ورغم ذلك أصر الرجل العراقي أن يعطي لنا مهلة ثلاثة أيام  للبحث عن مكان آخر

** شعرنا اننا تقدمنا قليلا في هذه المفاوضات فقد تتغير وجهة نظره خلال الثلاثة أيام وقد يؤثر عليه صاحب البيت العراقي .

** ولكن لشديد الأسف ظن أحد الزملاء بغبائه أننا في موقف قوة فاندفع  بعبارات استفزازية ما معناها اننا المصريين جينا من بلدنا حتى نعلم ولادكم ، ولازم تحترمونا وتقدرونا وتقدروا تفوقنا عليكم.

** لم يثور الرجل العراقي ويندفع ويهذي بشتائم ولا كلمات  ردا على هذا الكلام فقد كان يمتلك ردا مختصرا قاطعا ما معناه : لا داعي للكلام الفارغ فانت لم تحضر إلا من أجل الفلوس .

** عند ذلك خرج المصري عن اتزانه وظل يحاول تضخيم صورته ومكانته ومكانة المدرسين المصريين وقال احنا حنستقيل لو ما سكناش ،   فرد عليه العراقي بدون كلمات ولكن باشارة الى حذائه .

** كانت هذه الاشارة مثل صفعة شديدة على وجوهنا جميعا ، ولكننا عالجنا هذا الموقف المتأزم ، واعتبرنا أن الخلاف أنه بين شخصين ، فقمنا بتهدئة كل من المدرس المصري والرجل العراقي ، واصر الرجل العراقي ان يعطينا مدة ثلاثة ايام فقط .

** لم استطع النوم في هذه الليلة لمصيرنا المجهول والأفكار الكثيرة  التي دارت في ذهني

** أذكر فقط عبارة قالها زميل لنا بالغرفة عندما تشتد المصايب يجب أن نعلم ان الفرج قريب .

** وفعلا في اليوم التالي أتينا بصاحب المنزل وهو مدرس عراقي  لكي يتفاهم  مع ذلك الجار العراقي  الذي يرفض سكننا في المنطقة  وفي النهاية يقتنع الجار العراقي وتنتهي المشكلة ونبدأ في شراء ستائر للغرفة التي نسكن فيها والتي تطل مباشرة على الطريق بنوافذ زجاجية .

(( تحسن العلاقات مع الجار العراقي ))

** ثم تتحسن العلاقات مع الجار العراقي  ويأتي لزيارتنا  والتسامر معنا في كثير من الاحيان ويحكي لنا عن مشكلاته  نتيجة وفاة زوجته وتركها له عدد من البنات – وكيف أنه مضطر لكي يعمل عمل اضافي بجوار عمله الحكومي  فهو يمتلك ورشة  بلاط بجوار عمله في المحاماه

** بمرور الأيام يتبرع لنا احد الجيران  العراقيين بتليفزيون أبيض واسود لكس نستعمله طول فترة سكننا بالمنزل ، كذلك فإن كثير من الجيران أظهروا تعاونهم معنا عندما  نطلب منهم أدوات معينة أو حاجات ليس من الضرورة شرائها  .

** لم تكن حياتنا مستقرة في هذا المنزل الجديد ، فمجموعة الزملاء متنافرة وكانت معظم الأوقات نقضيها في فض المنازعات لدرجة أننا قليلا ما كنا نستمتع بمشاهدة التليفزيون

(( الغيت فكرة السكن في القرية هذا العام ))

** رغم ذلك لم أفكر في السكن في القرية مثل العام الماضي لاسباب كثيرة من أهمها أن اعتياد أهل القرية على وجودي بينهم قد يتحول الى ملل ، وأنه من الأفضل أن أتركهم على خير وتكفي الفترة السعيدة التي قضيتها في العام الماضي بينهم وتكفي الذكرى الجميلة التى حملتها حتى الآن

** اكتفيت أن يكون اتصالي بالقرية في فترة العمل فقط وكانت فترات العمل في هذه السنة طويلة لأنني أصبحت أعمل في الفترتين الصباحية والمسائية وكنت أتقاضى مقابل الحصص الزائدة عن نصابي وكان السبب في ذلك وجود عجز في مدرسات الفترة الصباحية بالاضافة ان الاستاذ حسن الغراقي لم يأخذ حصصا في المدرسة الاعدادية ( المتوسطة ) هذا العام

(( معنويات منخفضة للاستاذ حسن ))

** كنت أتوقع أن صاحبي الاستاذ / حسن يعتقد أنني حرضت المديرة على عدم اعطائه حصصا زائدة بالاجر في هذا العام ، لكن خاب ظني و توقعي وظهر لي أن الاساذ حسن أكثر تعقلا مما توقعت ، واتضح لي أن مشاعره طيبة تجاهي ، وتأكدت من ذلك في مقابلة معه أثناء سيره بمفرده بمدينة الشطرة عندما وعدني باعطائي أوراق تحمل خلاصة خبرته في تدريس اللغة الانجليزية ، وأوفى بوعده وارسل اليّ هذه الأوراق مع أحد طلاب مدرسته ، حدث ذلك دون أن أطلب مساعدته

** ومما أذكره ايضا في هذه المقابلة بالطريق أنه كان يشيد ببعض النقاط الجيدة التي كنت أتبعها في تدريس اللغة الانجليزية

** كان هذه التصرف دافعا لي كي أستمر معه صديقا رغم كل الظروف الصعبة التي تحيط به وهو ابتعاد كثير من زملائه العراقيين عنه وترقب المخابرات له نتيجة نشاطه الحزبي السابق  ونتيجة اعدام أخيه المتهم بالانضمام الى حزب الدعوة

** ولم تحركني نحوه إلا مشاعر انسانية  أقوى من كل الحسابات

(( نذالة من بعض الزملاء ))

** ومن أشد الأسف أن بعض الزملاء المصريين كانوا يستغلون صداقتي مع هذا الشخص العراقي كنقطة ضعف يمكن بها تخويفي بابلاغ السلطات العراقية  ضدي في أية تهمة سياسية حيث أن أي تهمة من هذا القبيل يمكن أن تدعم بدليل صداقتي مع حسن العراقي

** ورغم ذلك لا أتذكر أنني امتنعت يوما عن مقابلته خوفا من الشبهات بل كنا دائما نلتقي بأدق المواعيد

(( نماذج سيئة من الزملاء المصريين ))

** في هذه الفترة مرت أحداث كثيرة سببت لي كثير من المتاعب النفسية لدرجة أنني لم أتفرغ قليلا لكتابتها أو لمجرد تذكرها .

** كان من الزملاء شخصا كثير التحدث عن حياته الزوجية السعيدة وأحداث تصلح للأفلام الرومانسية والخيالية ، يقصد هذا الشخص أحد زملائه النازلين الى مصر أن يرسل رسالة أو شيئا ما الى زوجته في مصر ، وعندما ذهب الزميل للزوجة في مصر كانت المفاجأة ... لم تفتح له الباب الا بعد صعوبة وقالت له ما معناه أنها ( مش عايزة حاجة من ريحته )

** شخص آخر يتحدث عن العراقيين كثيرا وينعتهم بأفظع الصفات ( الاستاذ فتحي ) ، وينصب نفسه نقيبا للمدرسين المصريين ، وفي ذات يوم لاحظت منه سلوكا يدل على شذوذ جنسي مؤكد .

** لم أشعر بانسجام مع الزملاء المصريين وأشعر بما يشبه ضيق في التنفس للأحاديث التي لا فائدة منها غير استعراض للمهارات والقدرات واستعراض للطيبة والتقوى الزائفة

 ** شخص آخر زميل قضى بالعراق سنوات كثيرة أذهب اليه زيارة مع أحد الاشخاص وكانت ساعة غذاء ، لاحظت ان غذائه لا يزيد عن طبق مكرونة وعليه سلطة مكونة من طماطم وبصل

(( أثناء السكن في العراق ))

** وفي ذات يوم أثناء السكن مع الزملاء المصريين وعندما كنت أستعد للذهاب الى المدرسة المسائية أن زارني أحد العراقيين وحدثني عن مشكلة بينه وبين زملائي وطلب مني أن اذهب معه لحلها ، أكملت أدواتي وذهبت معه الى المنطقة التي بها المشكلة وكانت على طريق المدرسة منطقة ( البدعة ) وهناك وتركني بمفردي على أن يأتي بأصحاب المشكلة وانتظرت كثيرا ولم يأتي فأكملت طريقي الى المدرسة ولكنني كنت مندهشا ومتشككا لهذا الحدث وبعد نهاية العمل رجعت الى المسكن وفوجئت ان بعض الاشياء قد تم سرقتها من بعض الغرف ، أيقنت أن هذا الشخص هو الذي افتعل هذا الموضوع لكي يبعدني عن المسكن لكي يقوم بسرقته ، لم أصارح زملائي بالسكن بهذا الحدث وخاصة لأن المسروقات لم تكن كثيرة فقد كانت كلها اشياء يمكن تعويضها ، وتركت الموضوع وكأنه ضد مجهول ، ولكنني أنبت ضميري كثيرا على ذلك وخاصة عندما وجدت شكوكا في أحد الزملاء ، وحاولت أن أبعد هذه الشكوك بقدر استطاعتي ، ولكن ذلك لم يقلل من تأنيب الضمير الذي يلازمني حتى اليوم .  

 (( طبيعة غذائي في هذه الفترة ))

** كان معظم غذائي في المطاعم ، وعندما أطهي في المنزل اشتري دجاجة أو نصف كيلو لحم واسلقها مع البصل والبطاطس والبهارات ، وكثيرا ما كنت أستخدم البطاطيس المحمرة او المسلوقة مع البيض والبهارات

** لسوء حالتي النفسية بين الزملاء كنت أعتبر الغذاء مثل العلف  ولم تكن لي رغبة في تنويع الغذاء

** أتذكر أنني في هذه الفترة عبارة كنت أرددها لزملائي في السكن ومعناها ( أن فترة راحتي أقضيها في العمل المدرسة وفترة شقائي هي التي أقضيها بالمنزل )

** ولم أكن مبالغا في هذا العبارة  فالحياة كما قلت لم تكن مستقرة بالمنزل فقد كان معنا شخص غير مرغوب لدى الجميع لأن من طباعه الفضول الزائد والتدخل كثيرا في ما لا يعنيه ويبدو أنه من كثرة كلامه كان يعطي أسرار هذا الى ذاك مما كان يؤدي الى وقوع الخلافات بين افراد المجموعة ولهذا كان اغلبية المجموعة يكرهونه  ويبتعدون عن مجلسه بقدر الامكان  ويقاطعونه ، وينتهي الامر الى أن يظل هو بغرفة بمفرده رغم أن بالمنزل غرفتان أخريتان بهما ستة أفراد .

وتتوالى المشكلات معه حتى أصبحت أكره الأيام التي نجتمع فيها مع زملاء المسكن .

(( الذهاب الى الموصل في أجازة نصف السنة ))

عندما جاء اليوم المحدد للسفر الى الشمال ركبت مع صديقي عبده سليم سيارة متجهة الى الموصل  ورغم ان السيارة تعطلت في الطريق إلا أننا لم نهتم لأننا غير مرتبطين بمواعيد

** وعندما ذهبنا الى الموصل قصدنا أحد الفنادق المتوسطة وحجزنا بها ليلة  ثم نزلنا من الفندق للتجول في شوارع الموصل التي لا تختلف كثيرا عن سائر المدن العراقية فالمقاهي نفس المقاهي والمنازل نفسها وكذلك الأماكن الشعبية شبيهة لمثيلتها في بغداد مع اختلافات بسيطة في ملامح الناس ، وكثرة بائعي الحلوى والكرزات ( اللب والمكسرات ) واثناء تجولنا بالموصل طلب منا مجموعة من الشباب تصويرهم بكاميرتهم – وانتهزت أنا الفرصة ايضا وتصورنا مع هؤلاء الشباب بكاميرتنا .

** في الليل نذهب الى أحد المقاهي وهي مقهى ام كلثوم والتي كنت أشاهد صورا كثيرة لام كلثوم وغيرها من المطربين القدامى وكان يكمل هذا المشهد هو جهاز ريكوردر عتيق مسجل عليه اغاني أم كلثوم .

** وبعد الجلوس في هذه المقهى ذهبنا الى السينما ثم الى الفندق ولم يكن الجو باردا في الفندق كما كنا متوقعين – رغم ان الفندق لم يكن به التكييف عاملا .

(( الذهاب الى اربيل ))

** في الصباح اتجهنا بسيارة ميكروباس الى اربيل وهي محافظة الأكراد التي فيها يتمتع الأكراد  باستقلاليتهم  ولديهم مدارسهم وجامعتهم الخاصة التي تدرس بالكردية  وكنت حريص على مشاهدة الطريق  من نافذة السيارة ولاحظت أن القرى الكردية أكثر نظافة واتذكر رجلا كرديا يمشي الى جوار حماره  مرتديا ملابسه الشعبية المميزة والزاهية الألوان  كما لوكان يرتديها لأجل الاستعراص على المسرح واتذكر الجبال التي كانت تكسوها الخضرة  وجبال اخرى عن بعد يكسو قممها الجليد ولاحظت ان مستوى ارتفاع الجليد ثابت على جميع الجبال وكأنه منظر مرسوم ومحسوب بالمسطرة

** وعندما وصلنا الى اربيل لم نقضي فيها إلا ساعات قليلة شاهدنا فيها الاسواق التي تكتظ  بالبائعين الاكراد الذين يتعاملون مع زبائنهم  بأكثر من لهجة واكثر من لغة فهم الى جانب الكردية يجيدون العربية واللهجة العراقية واللهجة المصرية ايضا .

** لاحظت ان السوق في اربيل به زيادة في النشاط لدرجة أنني كنت الاحظ أطفالا صغارا يقومون بالبيع بمهارة فائقة ويتحدث بكل من اللهجة العراقية والمصرية بمهارة فائقة .

** ومن الطريف أنني شاهدت احد الأفراد الذين يلبسون الزي الكامل  ويتبعه ابنه الصغير وقد لبس نفس الزي مع اختلاف الحجم فبدت لي الصورة كما لو كنت أشاهد الطفل صورة مصغرة من ابيه .

** لاحظت عدد من المحلات تبيع السلال الملونة وأغطية الرأس الملونة

** وبعد هذه الساعات قليلة في اربيل علمنا أن في الساعة الرابعة عصرا سوف يمنع التجول في الشارع وهذا اجراء أمني يشبه حظر التجول

(( مغادرة اربيل ثم العودة الى بغداد  ))

** لذلك فقد غادرنا اربيل في الساعة الثالثة عصرا الى بغداد بعد أن اشترى زميلي عبده بعض السجائر للمتاجرة بها في بغداد

** وفي بغداد واصلنا خطتنا  في التنزه ، فذهبنا الى حديقة الحيوان التي أتيت اليها مرات عديدة من قبل كما لوكانت حديقة حيوان النزهة أو حديقة حيوان القاهرة

** التقطنا بعض الصور  وكنا حريصين على عدم اظهار كفوف أيدينا المصابة  في الصورة

ومن هذه الصور صورة أمام النعامة – عندما ارسلت هذه الصورة الى منزل أقاربي نبيل أبو عميرة  كان من تعليقاتهم أن النعامة هي التي أرادت التصوير معي

(( مقابلة أسامة ابن عمتي في الاوتوبيس ))

** وفي هذه الفترة أيضا وفي احدى الليالي ذهبنا لمشاهدة أحد الافلام العراقية ( الرسالة ) واثناء عودتنا من السينما وفي داخل الاوتوبيس تقابلت مع اسامة ابن عمتي  وكانت مفاجأة غريبة ولكنها لم تكن أغرب المفاجآت التي مررت بها والتي تحدثت عنها من قبل

** سلمنا على بعض وتعانقنا  بداخل الاوتوبيس  وفي الحقيقة أنني لم اعانقه لشخصه وانما لكونه يحمل رمزية الأهل والأقارب  والوطن والاستقرار  وذكريات الاسكندرية وذكريات الطفولة .

** عرفت اسامة وصديقي عبده كل منهما على الآخر ومشينا نحن الثلاثة  في شوارع بغداد العتيقة حتى وصلنا الى الفندق الذي يسكن فيه اسامة  وهناك أصر على أن ابيت معه هذه الليلة وقبلت دعوته واعتذرت الى صديقي بأنني سافترق عنه هذه الليلة على امل اللقاء مرة اخرى في اليوم التالي .

** وفي الفندق كان يستأجر أسامة الغرفة مع زملاء له من الاسكندرية  لكن يبدو انه لم يتعرف عليهم إلا من العراق

** سهرت مع اسامة وتحدثنا في أمور العمل والسفر والغربة وأخبار الأهل واستمعت الى شريط تسجيل من اهله

** ثم قضينا الليل نتحدث في شتى الموضوعات أذكر منها زواج أخت أسامة وكم هو مرتاح لتمام الزواج  واذكر أيضا شكوى اسامة من السرقات التي تحدث في الفندق بين المصريين وبعضهم

** وفي هذه الليلة أيضا شاهدنا التليفزيون  ولا أذكر من هذه المشاهدة إلا منظر الجرحى والقتلى في المعارك التي تدور على الجبهة  العراقية الايرانية .

** ثم نمنا وفي الصباح الباكر نزلنا من الفندق هو الى عمله وانا الى طريقي لقضاء أجازة نصف السنة .

** وأذكر انني في هذا اليوم لاحظت في أحد المحلات الشعبية شخص سمين يجلس على كرسي صغير و يقلي البيض قلي سريع في كمية دهن كثيرة ويضعه في سندوتشات مع بعض البهارات ، وقفت اراقب حركاته وطريقته المنتظمة في العمل ولاحظت أنه بعد كل طلبية يمسح ماحوله لكي يبدأ طلبية أخرى من جديد حتى وان كانت سندويتش واحد ، وكان من الطبيعي أن اشتري منه .

** وتكررت زياراتي لأسامة فيما بعد وكثيرا ما كنا نتجول في شوارع بغداد أو كنا نجلس على المقاهي وكان أسامة دائما يتسابق كعادته في دفع الطلبات تماما كما كان يحدث بيننا أثناء التجول في الاسكندرية في محطة الرمل وغيرها .

(( مع صديقي عبده سليم لمرة ثانية ))

** يوم آخر وأثناء هذه الأجازة نزلت مع صديقي عبده ومعنا الكاميرا  لغرض التجول في الشوارع وقضاء أوقاتا ممتعة .

** وفي أثناء التجول مع صديقي عبده - على الجسر القريب من وزارة الخارجية -  هناك وقفنا على الجسر لكي يلتقط كل منا صورة للآخر  اثناء وقوفنا باطمئنان فوجئنا بأحد العساكر من برج الحراسة القريب يصيح فينا ويأمرنا بالوقوف مكاننا وعدم فتح الكاميرا

وقفنا لانتظار ماذا سيحدث ، عسكري يحمل سلاحا  يشهره امامنا ويسوقنا الى داخل المبنى الى أحد الضباط  الذي يجلس على مكتبه

** وفي المكتب يتفحصنا الضابط بعينيه  ثم يسألنا عن هويتنا  وعما كن نفعله على الجسر فأطلعناه على بطاقاتنا  وشرحنا له كل شيء بالتفصيل

** ولم يكن الأمر بكل هذه البساطة فالضابط رغم تفحصه لبطاقاتنا  التي تثبت اننا مصريان فهو يرفع السماعة الى شخص آخر على الخط  ويخبره أن أمامه شخصان يدعيا انهما مصريان  ويدعيان انهما يلتقطان صورا تذكارية على الجسر  ثم يوجه الضابط سؤالا بما انك مدرس لماذا لم ترجع الى مدرستك في ذي قار  وقد انتهت اجازة نصف السنة  من الأمس

** ارتبكت قليلا  لهذا السؤال الغير متوقع  لكنني استطعت أن أرد عليه بحجة مقبولة وهي أنني أمكث الآن في بغداد بغرض عمل اجراءات خاصة بالعمل ، ثم يسألني الضابط ما هي الأوراق التي  تثبت ذلك فقلت له ان بعضها في الفندق  وبعضها في ذي قار

** لم يكن حديثنا مع الضابط بمفرده  وانما كانت كل كلمة تقريبا تنتقل الى الطرف الأخر على التليفون وبطريقة مخيفة

** كان قلبي يرتجف كلما سمعت كلمة " يدّعي " من الضابط الى الطرف الأخر على الخط ، كما أن مجرد وجود طرف آخر على التليفون يضيف إلى الأمر أهمية كبيرة وغموضا مخيفة

** ورغم المدة القصيرة التي قضيناها في مكتب الضابط إلا أن أفكارا كثيرة توالت الى ذهني ، فأفكر ماذا سوف يحدث  لي ، هل سيكون مصيري مصير العراقيين المعتقلين الذين نسمع عنهم ؟ هل يمكن ابلاغ أسرتي في مصر بهذه الحادثة ؟ وكيف ؟

** ان زملائي لا يعرفون عني شيئا هل يمكن الاتصال بزملائي ؟

** ان وجود كاميرا معنا يحتم أن ننتظر كثيرا في هذا المكان  حتى يتم طبع الصور ثم فحصها .

** ان المدة التي سوف نقضيها لابد وان تكون طويلة اذا استمر التحقيق معنا بهذه الطريقة . فإن مجرد اثبات هويتنا مشكلة فالضابط رغم اطلاعه على بطاقاتنا إلا أنه ماذال يقول كلمة يدعي ، كذلك فهو يطلب أوراق رسمية  تثبت أنني موجود في بغداد بغرض اجراءات خاصة بالعمل  .

** كانت كل هذه الأفكار وغيرها تتوالى الى ذهني أثناء اجابتي على أسئلة الضابط  الخاصة بسبب مرورنا في هذه المنطقة والاتجاه الذي تصورنا فيه ، وكانت اجابتنا تبدو منطقية  وليس بها غموض وفي نهاية الاسئلة أعطى لنا الضابط الكاميرا وبداخلها الفيلم وقال لنا ما معناه اذهبوا الله معكم  وارجو ان تعذرونا  ياأخوتنا المصريين وأن تقدروا ظروف الحرب التي تمر بها البلاد

** خرجنا ومعنا الكاميرا وبداخلها الفيلم وشعرنا اننا خرجنا من مأزق كبير جدا  وأكملنا تجولنا في حالة من القلق  والتفكير واستعادة الاحداث  لكن سرعان ما انتهت الحالة وأكملنا طريقنا وأكملنا تصوير الفيلم الذي يالكاميرا

** وبعد ذلك تكررت زيارتي  لهذا الصديق ( عبده سليم ) وتوطدت علاقتي معه حتى أهديته بعض الصور الى جانب الملابس التي تركتها في العراق وهي نصف مستعملة

** كذلك تكررت زيارتي لاسامة ابن عمتي من اجل الشعور بشيء من الاتصال بالاهل  وشيء من الاستقرار  الذي حرمت منه في دوامة الغربة

** وتكررت زيارتي لكثير من الأصدقاء  ليس إلا لغرض الابقاء على صداقات قد تنفع في يوم من الأيام

 (( الندم على عدم السكن بالقرية في هذا العام ))

** وتمضي الشهور في الفصل الدراسي الثاني ومررت بمواقف صعبة مع الزملاء المصريين وأحيانا كنت أشعر بالندم على أنني تركت القرية والحياة المستقرة لكي أعيش في مستنقع العقد النفسية ، وأحيانا أخرى أقول هذا نصيبي وقدري وهذا ما كتبه الله لي ولعله أكثر خيرا مما كنت أريد .

(( اقتراض عشرة دينار ))

** وفي أثناء هذه السنة اقترضت مني احدى عاملات المدرسة مبلغ 10 دينار على أن تسده في الشهر القادم ، ظلت تؤجل السداد كل شهر بطلب مهذب يرغمني على الموافقة.

** وعندما اقترب العام الدراسي على الانتهاء ، جاءت لي وبكل حرج وقالت: أدري انك مسافر الى مصر، ومن الواجب أن اسدد لك حقك ، وأخذت منها الفلوس ،  أعجبني  منها أنها لم تتجاهل كما عهدت من آخرين ، وكنت أعتبرها في كل مرة تطلب التأجيل  كأنها سددت كما بوعدها  ثم اقترضت مرة أخرى .

** وفي نهاية العام الدراسي علمنا أن التعاقدات سوف تلغى بالنسبة للمصريين ، لم أصطدم بهذا القرار واعتبره خيرا لي لأن قرار العودة الى الوطن وانهاء فترة الغربة يعتبر من القرارات الصعبة وأنني لا أرغب أن أكون مثل بعض الناس من ارتضى لنفسه أن يعيش مغتربا عشرات السنوات في الغربة وعدم الاستقرار.

(( العزم على انهاء العمل بالعراق ))

** ورغم انني علمت بعد ذلك بامكاني الاستمرار بالعمل بالتدريس تحت نظام آخر وهو التعيين ورغم أن فرص كثيرة للعمل قد علمت بها غير التدريس نتيجة تعرفي على الكثير من المصريين والعراقيين إلا أني رضيت ذلك وقلت بارك الله فيما رزق ، وقبلت العودة أيضا للاحتفاظ بفرصتي في التعيين في مصر حيث صدر قرار تعييني بالتربية والتعليم في مصر

** ثم توجهت الى الوزارة في بغداد لتحرير ورقة تثبت أنني عملت بالتدريس في فترة محددة وكنت أتوقع أن هذه الورقة تستلزم اجراءات كثيرة ولكنني فوجئت بأنني عندما توجهت الى غرفة الحفظ (الارشيف) وجدته مكانا نظيفا محترما وقام الموظف المسئول بكل احترام بالبحث عن الملف الخاص بي وكتب لي الصيغة بخط اليد وأرسلني الى الطابعة ( الالة الكاتبة ) وبعد الكتابة أخذت الورقة مجراها في التوقيعات بكل سهولة واحترام وبدون دمغات

** وفي الايام القليلة الباقية من العام الدراسي اتفقنا مع صاحب البيت العراقي أننا بدلا من دفع ايجار آخر شهر نترك له السراير بفراشها

** وفي الساعات الأخيرة وقبل مغادرة السكن أجد نصف الزملاء تقريبا يبيعون سرايرهم ويخلون بالاتفاق مع صاحب البيت

** تذكرت الحلال والحرام والأخلاق والشهامة والمروءة وغير ذلك من العبارات التي لا تعدو عن كونها ذبذبات صوتية يتشدق بها هؤلاء

مع الزملاء المصريين في الايام الاخيرة 1983

** شعرت بالخزي لهذا التصرف من الزملاء ولكي أرضي نفسي وضميري تعمدت كعادتي أن أخفف الصورة السيئة للزملاء بأن أعطي كثير من أشيائي هدايا للعراقيين الذين عرفتهم من الجيران منهم سائق تاكسي حرص على توصيلنا بلا مقابل في كثير من الأحيان ولم أنسى أنها وصلنا ذات يوم وكانت يده مصابة ومربوطة ربطا شديدا ، ومنهم جار كان يأتي لنا في رمضان بأكلات بيتي ، ومنهم صاحبي حسن جعفر الذي كان يستضيفني بمنزله الذي شعرت فيه بدفء العائلة وكان معادلا كبيرا لحالة الاغتراب التي كنت أعيشها في سكني وفي عملي .

** وبعد ترك المدينة اتجهت الى بغداد استعدادا الى السفر ، واستلزمت الاجراءات سفرا الى البصرة وكانت فرصة للتعرف على المدينة العتيقة ومن شدة حرارة الجو في هذه الفترة كانت المياه تخرج ساخنة من الحنفية .

** وفي بغداد في هذه الفترة كنت ارتاد الفنادق الفاخرة حتى أخفف على نفسي العناء من اجراءات السفر وأثناء الاستعداد للسفر بالطيران المباشر الى  القاهرة